مصالحنا الشخصية وانفراط القيم
السلوك الأخلاقي في الأساس هو التصرف فيما وراء مصالحنا الذاتية الخاصة، كما أنه تجاوز للأنا لإظهار الإهتمام بالآخرين. فالسلوك الأخلاقي هو ذلك السلوك القائم على الإنصاف والعدالة وحقوق واحتياجات الآخرين، فضلاً عن الذات.
ماذا يعني كل ذلك لنا كأفراد وجماعات ونحن جميعاً مسؤولون عن تصرفاتنا فيما وراء مصالحنا الذاتية؟ في هذا العصر المادي بكل مكوناته، علينا أن نتعرف أكثر على ذواتنا، وأن نكون مُلمين بقدر عال بمسؤولياتنا تجاه أنفسنا والآخرين. علينا أن نميز بتمعن ونختار ضمن ذلك الكم الكبير من المصالح المتشابكة والمشتركة بما يعنينا حتى نخلق ذلك التوازن بين مصالحنا الذاتية وتلك التي هي ملك للآخرين.
في زمن المصالح والمكاسب الدنيوية الآنية والأنفس الضيقة والنظرة القاصرة التي لا ترى أبعد من محيطها، تلاشت القيم وانفرط عقدها حتى أضحت الناس أقرب إلى التوحش منهم إلى الإنسانية.. تلك القيم التي تعلمناها وكبرنا عليها وعشنا في كنفها، لم تعد أسهمها اليوم ذات قيمة حقيقية لدى الكثير، ولم يعد لها ذلك الطلب في سوق تعج بكل ماهو مادي.
اليوم اخترقت المصالح المادية ذواتنا وعقولنا، حتى بتنا كما الدمى يحركها المتمصلحون متى وكيفما شاؤوا. الواحد منا اليوم بات مخترقا حتى في تلك الأوقات التي تجمعه وتربطه بخالقه. صحيح أنك تلحظ ذلك الإنسان قائماً وقاعداً على اعتبار أنه في صلاة، إلا أنه في الواقع مشتت العقل والتفكير ساه ومشغول في معظم تلك الدقائق القليلة في أمور دنياه بدلا من أن تكون قبلته لله الواحد الأحد. لا عجب في ذلك، لأن العقل هو الآخر قد فرط ولم يعد له من أداة تحكمه أو إرادة توجهه الا تلك التي تروج لمنتجاتها من خلال أجهزة ذكية لم نعد قادرين على فراقها حتى في أوقات تعبدنا فاشتغلنا بها كما لو أنها سبحة كهرمان.
أما ما نشهده اليوم من أحداث مهوله فهي دون أدنى شك معيار صادق للتوحش البشري وأنها لا تمت للإنسانية من قريب أو بعيد. كل ذلك يحصل لنا وأكثر لأننا قتلنا إنسانيتنا بأيدينا فلا يحق لنا بعد اليوم التحدث عنها أو التشدق بها. بات علينا أن نصمت عسى أن يكون في صمتنا حكمة تحرك ذلك الضمير ليصحو من غفلته ويخرج من ظلمته ليرى نور الحقيقة فيتعلم منها ويرجع إلى إنسانيته التي كرمه الله بها.
اليوم بات علينا أن نلجم تلك النفس ونروضها حتى نحد من تمردها قبل أن تأخذنا إلى حيث مالا نريد. لا أحد ينكر أننا اليوم بتنا مخترقين في ذواتنا ولم نعد قادرين على محاربة جشعنا وأنانيتنا، لكننا جميعاً مدعوون إلى الرجوع الى الطريق السوي والإبتعاد عن المزالق الفكرية والسلوكية. تلك المزالق التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم من تشظ بات يهز مضاجعنا دون أن يوقظنا من سبات هو أقرب إلى الموت منه الى الغفوة.
في زمن سقطت فيه المصالح العليا والقيم ولم يتبقى إلا المصالح الشخصية، صرنا نتوارى خلف أصابعنا خجلاً من أنفسنا والآخرين، صرنا في حاجة ماسة لأن نضع أنفسنا في مكان من استقبحناه، حتى نشعر ولو بالقليل من تلك المظلومية التي يعيشها.
إن كنا تبتغي الدار الآخرة، فعلينا أن نرجع إلى فطرتنا التي فطرنا الله عليها وأن نبتعد عن الحكم على الغير ووصفهم بما ليس فيهم ابتغاء زحزحتهم من مقامات كسبوها بجهدهم الجهيد. علينا أن نسأل أنفسنا كيف لنا أن نطلب الحسنى من أناس نحن لم ننصفهم أو نحسن إليهم في المقام الأول. أليس الأجدر بنا أن نأخذ بيدهم ونبادلهم بما هو أحسن من قول وعمل.
إذن هل نحن اليوم في حال ميؤوس منه بعد أن توغلنا في غيّنا وإسرافنا في حب أنفسنا وتجردنا من الكثير من مقومات الإنسانية والتي قرنها الله بعبادته وتوحيده، أو أنه مازال أمامنا متسع من الوقت في أن نلجأ إلى الحكمة والعقل وننصر أنفسنا بالرجوع إلى تلك القيم الصحيحة والتي تجعلنا في المقام الأول والأخير ممن صلحت أعمالهم وحسنت خواتيمهم.