آخر تحديث: 19 / 6 / 2025م - 6:45 م

اتكالية اليوم... فشل الغد

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

تُشير دراسة ميدانية حديثة بعنوان ”مستوى الاتكالية الاجتماعية في الأعمال الموجهة لدى طلبة علوم التربية“ إلى أن أكثر من 60% من الطلبة الجامعيين، خصوصًا في التخصصات التربوية، يُظهرون ميولًا واضحة نحو الاتكالية في أدائهم، ويفضّلون التوجيه المباشر على اتخاذ القرار الذاتي أو المبادرة الفردية.

وبرغم تركيز الدراسة على البيئة التعليمية، فإنها تكشف واقعًا أوسع يتمثل في نمط ذهني يتسلّل إلى مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والمهنية، ويُلقي بظلاله على مستقبل الأفراد والمؤسسات.

الاتكالية: من سلوك فردي إلى ظاهرة مجتمعية

لم يعُد مشهد الاتكالية - في تصوّري - مقتصرًا على طالب جامعي في بداية طريقه المهني، أو موظف محدود الصلاحية ينتظر التوجيه في كل صغيرة وكبيرة، أو فرد يواجه ظروفًا استثنائية تمنعه من اتخاذ قراراته بنفسه، بل أصبح سلوكًا شائعًا يمتد إلى ربّ الأسرة، والعامل في المؤسسة، والمسؤول في المجتمع المدني، بل وحتى إلى بعض الهياكل الإدارية التي تنتظر التوجيه من الخارج بدلًا من المبادرة الذاتية.

وهكذا، تحولت الاتكالية من سلوك فردي إلى ظاهرة مجتمعية تُضعف الحافز الذاتي، وتُرسّخ روح الانتظار بدلًا من المبادرة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:

ماذا نعني بالاتكالية، ولماذا يُعاني البعض من ضعف روح المبادرة والاعتماد المفرط على الآخرين في اتخاذ القرارات الشخصية والمهنية والمجتمعية، وكيف يمكن تعزيز الاعتماد على الذات في مواجهة العقبات؟

تعريف الاتكالية

يُعرّف بعض الباحثين الاتكالية بأنها:

• سلوك نفسي: أي التصرفات أو ردود الأفعال التي يقوم بها الإنسان، وتكون ناتجة عن دوافع أو مشاعر داخلية مثل الخوف أو القلق أو الطمأنينة، وغالبًا ما تكون دون وعيٍ كامل، وتتأثر بالحالة النفسية والعقلية للفرد، كمن يتجنب المبادرة أو المشاركة في عملٍ ما رغم قناعته بضرورة التغيير ومعرفته الكاملة به.

• وسلوك اجتماعي: أي الأفعال أو التصرفات التي يقوم بها الفرد أثناء تفاعله مع الآخرين داخل المجتمع، والتي تتأثر بالعادات والتقاليد والثقافة العامة والضغوط الاجتماعية، كشخص يذهب لمناسبة ما فقط لأنه يخشى كلام الناس، أو يريد مجاراة العرف.

الاتكالية والكسل: سلوك متشابه

ولأن الاتكالية هي لبّ الحديث في هذا المقال، فمن المهم أن نُفرّق بينها وبين الكسل، حتى لا نُجانب الصواب في تشخيص العلّة، ولا نُخطئ في تقديم الحل.

الاتكالي لا يفتقر بالضرورة إلى النشاط أو الحضور، لكنه يفتقر إلى المبادرة واتخاذ القرار، ويظل في موقع الانتظار، مترقّبًا من يُمهّد له الطريق أو يُمْلي عليه الخيارات. بينما الكسول غالبًا ما ينسحب من البداية، ويتجنّب بذل أي جهد، بل ويغيب تمامًا عن الفعل والمساهمة.

فقد نجد مثلًا في المناسبات الاجتماعية من يتحرك ويبدو منشغلًا، لكنه لا يُبادر لتنظيم الطابور أو تقديم المقترحات، ويبقى في دائرة الانتظار، متوهّمًا أن على غيره أن يتحمّل المسؤولية بدلًا عنه. وفي المقابل، هناك من لا يحضر أصلًا، أو يتهرب من أي التزام بدعوى الانشغال أو ضيق الوقت أو… إلخ. وهذا هو الكسل في صورته الصريحة، وكما قال الإمام الكاظم : ”إيّاك والضجر والكسل، فإنهما يمنعان حظّك من الدنيا والآخرة“.

حين يغيب القرار تتكوّن الطوابير

في المقال السابق: ”طوابير المناسبات.. أزمة إدارة أم سلوك؟“، يبدو للوهلة الأولى أن السبب هو غياب الجهة المنظّمة أو ضعف التنسيق، حيث ”لا يوجد من ينظم الصفوف، ولا توجد لافتات توجيهية، ولا توجد حلول بديلة، ولا… ولا…“، لكن بالتأمل أكثر، نجد أن الناس أنفسهم ينتظرون من يُبادر بالتغيير لأنهم يخشون مخالفة ”السائد“ أو الخروج عن المألوف، حتى لو كان مرهقًا أو مُجحفًا.

ولذلك ورد عن الإمام علي : ”العاداتُ قاهرات“، و”للعادةِ على كل إنسانٍ سلطان“. وإنّ مخالفة الإنسان لأمرٍ ألِفه وتعوّد عليه ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى العزم والإرادة والوعي.

وهنا يتحوّل الخطأ من خلل تنظيمي إلى خلل في نمط التفكير والسلوك. ففي إحدى المناسبات - على سبيل المثال - بادر أحد المنظّمين بوضع لافتات واضحة، وتوفير ممرات ميسّرة لتسهيل دخول المهنّئين، إلا أن الحضور تجاهلوا التوجيهات، وفضّلوا التزاحم والتفرّد كما اعتادوا، بحجة أن هذا هو المتعارف عليه.

وهو ما يشير بوضوح إلى أن المشكلة أعمق من مجرد نقص في التنظيم أو ضعف في الإدارة أو الإمكانات، بل هي نتيجة نمط سلوكي جماعي قائم على الاتكالية والخضوع للعادات.

لا إصلاح بلا تحوّل سلوكي

كثيرًا ما تساءلت: لماذا يُعاني البعض من ضعف روح المبادرة؟ ولماذا يصعب على الكثيرين خوض التحديات، رغم توفّر الإمكانات والدعوات المتكررة إلى التغيير؟

وتأمّلتُ في مشهد الطوابير المتكرّر في مناسباتنا، رغم المحاولات المتكررة والنوايا الإصلاحية التي لا نشكّ فيها، ثم أدركت أن المشكلة أعمق من مسألة تنظيم، وأبعد من الإجراءات الشكلية.

إنها مشكلة في نمط التفكير الراسخ، وفي الذهنية التي ترى التغيير مهمة الآخرين، ولذلك فإن أي تغيير لا يخترق طريقة التفكير، ولا يُوقظ السلوك، سيظل هشًّا قابلاً للانهيار مع أول عائق، لأن العقول ما زالت أسيرة المألوف، والنفوس لم تتأهل بعد لتقبّل التحول.

ولعلّ أبرز ما يُعطّل هذا التحول هو الانتشار الواسع لظاهرة الاتكالية.

الاتكالية وتكلفة الفرص الضائعة

حين يُربّى الطفل على الاعتماد الكلي على والديه، ويُمنع من اتخاذ القرارات الصغيرة بحجة أنه ”لا يزال صغيرًا“، أو يُمنع من الخطأ والتجربة بدعوى ”الخوف عليه“، أو يُسلب منه حقّه لأن ”الكبار أدرى“، يتكوّن لديه شعور ضمني بأن الآخرين مسؤولون عن مصيره، أو قناعة باطنية مفادها أن مصيره بيد غيره.

فيكبر هذا الإحساس شيئًا فشيئًا، ويتحوّل إلى فلسفة حياة، يتجنّب فيها المواجهة، ويُفضّل الانتظار، ويبحث دائمًا عمّن يُمهّد له الطريق.

وهكذا تُهدر فرص ثمينة كان بالإمكان أن تُثمر مهارات، أو تُنتج تجارب، لتصبح الاتكالية سببًا مباشرًا في ضياع الشخصية المستقلة، وتتراكم الخسائر على المستوى الفردي، فتنعكس على المؤسسات والمجتمع بأسره.

من ينتظر غيره.. لن يتقدّم

يعتقد كثير من الناس أن التغيير ليس من مسؤوليتهم، ويُحمّلون غيرهم أو المحيط الاجتماعي أو حتى الظروف الزمانية والقيادات كل تبعات الواقع المتردّي، بينما ينسون أن الشرارة الأولى تبدأ منهم.

فالتحوّل الحقيقي لا ينتظر مبادرة من سواهم، بل يحتاج إلى وعي واستعداد وتحمل للمسؤولية. فالمجتمعات لا تتغيّر دفعة واحدة، بل تتغيّر حين يقرّر الأفراد - كلٌّ في مجاله - أن يكونوا جزءًا من الحل، لا امتدادًا للمشكلة.

وكما قال المهاتما غاندي: ”كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم“، وكما قال الإمام علي : ”من اتّكل على زاد غيره طال جوعه“.

الخاتمة: لا تنتظر… كُن أنت البداية

إن ما نشهده من طوابير طويلة في مناسباتنا الاجتماعية ليس خللًا تنظيميًا فحسب، بل هو انعكاس صريح لحالة ذهنية جماعية تُفضّل التلقّي على الفعل، والانتظار على المبادرة، والاعتماد على الآخرين بدلًا من تحمّل المسؤولية.

وهنا تأتي رسالتي إليك، من وجهة نظري، كحل لمشكلة ”طوابير المناسبات“، وهي:

”لا تنتظر أن يتغيّر الواقع وحده… بل كُن أنت بداية التغيير.“

ابدأ من نفسك، اقترح حلولًا، ارفع صوتك بالفكرة التي تُريح الناس وتحترم وقتهم وكرامتهم، ضع لافتة، نظّم الصف، شارك باقتراحاتك وآرائك للمجتمع، وكوّن فريقًا تطوعيًّا في الحي أو العائلة أو العشيرة لتنظيم المناسبة القادمة، فإن أصغر مبادرة صادقة قادرة على أن تُحدث الفرق.

وتذكّر دائمًا:

”إن اتكالية اليوم فشل الغد، وأن من ينتظر غيره لن يتقدّم، ومن يُبادر اليوم يُمهّد درب النجاح للغد… فاختر أن تكون أنت بداية الطريق، لا امتدادًا للانتظار.“

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
علي
[ سيهات ]: 19 / 6 / 2025م - 11:46 ص
فعلاً الاتكالية مشكلة كبيرة تؤثر على مستقبل المجتمع، وانا أؤمن أن التغيير يبدأ من الفرد، وضرورة أن نكون نحن المبادرة في حياتنا اليومية
2
فاطمة الصفار
[ القديح ]: 19 / 6 / 2025م - 2:21 م
شخصيا مرّيت بمواقف كثيرة، وكنت ألاحظ أن الناس تنتظر التوجيه بدل ما تتخذ خطوة، لازم نغير هالذهنية ونبدأ من أنفسنا
3
مريم الرمضان
[ الجارودية ]: 19 / 6 / 2025م - 3:47 م
مقال عميق وأتفق معك أن التغيير يبدأ من الفرد، لكن برأيي لازم يكون فيه جهود مشتركة من المجتمع، المدارس، والجهات الحكومية، عشان نقدر نغير هذه العقلية ونبني جيل مبادر وواعي