آخر تحديث: 19 / 6 / 2025م - 11:32 م

نقطة ارتكاز الوعي ومقاومة شرود الذهن في الصلاة

الإدراك الإنساني محدود بطبيعته، فلا يستطيع الإنسان تركيز ذهنه إلا ضمن نطاقٍ ضيّقٍ جدًا، ويقدّر العلماء الحد الأعلى لهذا التركيز بـ ”سبعة زائد أو ناقص اثنين“، أي أن أقصى ما يمكن للذهن معالجته في اللحظة الواحدة لا يتجاوز تسعة عناصر، وهو الحد الأقصى لحالاتٍ نادرة، أما الغالبية فدون ذلك بكثير.

ومن هنا، فإن سعة الإدراك الذهني لدى الإنسان تبقى محدودة للغاية. وعند تركيز الذهن في نقطةٍ معيّنة، فإن هذه النقطة تشغل حيّزًا واسعًا من المساحة الإدراكية، وتُقصي ما سواها مؤقتًا.

ولتقريب الصورة: تخيّل أن أحدهم يسير في الطريق، وفجأة يشدّ انتباهه منظرٌ ما، فيثبّت بصره عليه بانجذابٍ تام، ويستغرق فيه ذهنًا وشعورًا؛ وما أن يُفيق، حتى يجد نفسه قد اصطدم بعمود إنارةٍ لم يكن يراه أصلًا، لأن تركيزه الكامل قد انحصر في ذلك المنظر دون سواه.

حركة الذهن اللامتناهية

وهب الله سبحانه الإنسان دماغًا يدير بدقّةٍ بالغةٍ مختلف أجهزة جسده، بما تحويه من أنظمة معقّدةٍ ووظائف حيوية.

ويُعدّ المخّ الجزء المحوري من الدماغ، وهو المسؤول عن معالجة البيانات والمعلومات، سواء تلك التي ترد إليه من الحواس، أو المخزّنة في الذاكرة، أو المتخيّلة والمُتوقّعة.

ويقوم المخّ بهذه المعالجات على نحوٍ دائمٍ دون يتوقّف، وهو ما يُعرف بعملية التفكير.

لذلك، يظلّ الإنسان في حالة تفكيرٍ مستمرّة ما دام حيًّا، حتى وإن لم يكن واعيًا بذلك أو موجّهًا له.

وهنا يأتي دور العقل، باعتباره المصدر الوجداني العميق للتوجيه والتمييز، ليضبط اتجاه الذهن ويمنع تشتّته.

هذه اللحظة - لحظة التوجيه - تُدعى اللحظة الواعية، فإن غابت، تاه الذهن في مساراته، وانشغل بمعالجاتٍ لا تعود عليه بشيء سوى الشرود.

الشرود الذهني في الصلاة.. تحت المجهر

يقف الإنسان في محراب الصلاة بين يدي خالقه، لأداء أعظم فريضةٍ تُعبّر عن الاتصال الحقيقي بين العبد وربّه.

وقد قال بعض العلماء إن موضع الصلاة سُمّي ”محرابًا“ لأن الإنسان فيه أشبه ما يكون في حالة حرب وجدانية، يخوضها على ثلاث جبهات:

• الجبهة الأولى: الاستجابة لنداء الله تعالى، وهي عقبة لا يجتازها كثيرٌ من الناس، إذ يحرمون أنفسهم من هذا اللقاء النوراني، وما فيه من الأجر والثواب العظيم.

• الجبهة الثانية: توجّه القلب في الصلاة، بأن يكون حاضراً لا مشغولاً، ولا مخترقًا بمغريات الحياة وملذّاتها المتزاحمة.

• الجبهة الثالثة، وهي الأعقد: تحقيق الحضور الذهني الكامل، حيث لا يكفي أن يؤدي الجسد حركات الصلاة، بل لا بدّ أن يرافقه الذهن حضورًا وخشوعًا، وهذا ما يُكمل الصلاة ويُبلغها مقامها الأعلى.

ومن هنا، تصبح الحاجة إلى آليةٍ تُعين الإنسان على تثبيت وعيه في الصلاة أمرًا جوهريًا.

وهذه الآلية هي ما أسمّيه بـ ”نقطة ارتكاز الوعي“: وهي توجيه النظر إلى موضعٍ محددٍ في كل جزءٍ من أجزاء الصلاة، بحيث يُركّز الذهن في تلك النقطة، فتنشغل بها مساحة واسعة من الوعي، مما يُضعف احتمال تشتّت الذهن وانجرافه خلف الخواطر.

وقد اخترت العين تحديدًا لأنها العضو الأكثر خضوعًا لإرادة الإنسان أثناء الصلاة، بخلاف الأذن التي تبقى مستقبلةً للمؤثرات الخارجية دون توقف.

فحين يُثبّت المصلي بصره على موضعٍ معين، فإن الوعي يتوجّه بسكون إلى تلك النقطة، ويقلّ تلقائيًا تأثّره ببقية الحواس، وعلى رأسها السمع.

وليس هذا تنظيرًا فقط، بل تؤيّده النصوص الدينية الواردة عن أئمة أهل البيت ، حيث حدّدت بدقّة المواضع التي يُستحب للمصلي أن يُوجّه نظره إليها في كل جزءٍ من أجزاء الصلاة. كما أن هذه المواضع لا تُعدّ من شروط صحة الصلاة، لكنها من سننها المؤكدة التي تعين على تحقيق الخشوع والاستغراق الوجداني في الصلاة. وهي تُجسّد المعنى العميق لـ ”نقطة ارتكاز الوعي“، بحيث يُصبح النظر الثابت وسيلةً لحضور الذهن.

ولتحديد مواضع النظر في الصلاة لا نحتاج إلى اجتهاداتٍ شخصية بل نجد في روايات أهل البيت هديًا دقيقًا يوضّح موضع النظر الذي يُستحب للمصلي أن يثبّت بصره عليه في كل جزءٍ من أجزاء الصلاة.

وفيما يلي، أستعرض هذه المواضع كما وردت في الروايات، لتكون دليلًا عمليًا لكل مصلٍّ يبحث عن السكينة الذهنية والخشوع الحقيقي في صلاته:

ففي حال القيام، يُستحب أن يُوجّه المصلي بصره إلى موضع السجود، ليبدأ صلاته بانتباه بصري يُسهم في سكون الذهن.

وفي القنوت، ينظر المصلي إلى باطن كفّيه، وكأنّه يتأمل افتقاره بين يدي ربّه، مُعلِنًا خضوعه في لحظة دعاء وطلب.

وحين الركوع، يُوجّه نظره إلى ما بين قدميه، في انسجامٍ مع حركة الانحناء والتذلل.

وفي السجود، تستقر العين على طرف الأنف، فتغدو أقرب ما تكون إلى الأرض، تجسيداً لروح التواضع والانكسار.

وفي الجلوس بين السجدتين، وكذلك أثناء التشهد، يُستحب أن يُثبّت المصلي نظره نحو حجره، ليُركّز بذلك وعيه، ويحافظ على توازنه الذهني، ويبقى في حالةٍ من الخشوع والخضوع.

وبهذا التوزيع البصري المتدرّج تتحوّل النظرة الواعية إلى نقطة ارتكازٍ ذهنيّةٍ وروحيّةٍ تُضيّق منافذ الشرود وتفتح أبواب الخشوع.

وختاماً: إن الصلاة ليست مجرد أداءٍ حركيّ، بل هي مقامُ حضورٍ، وفسحة اتصالٍ بين العبد وربّه، لكن هذا الحضور لا يتحقق إلا حين يسكن الذهن ويستقر الوعي، وهنا تبرز قيمة نقطة ارتكاز الوعي كوسيلةٍ بسيطةٍ في ظاهرها، عميقةٍ في أثرها، تُمكّن الإنسان من امتلاك زمام نفسه، ومقاومة شرود ذهنه، وتوجيه وعيه الكامل نحو اللحظة المقدّسة.

فالنظر الثابت إلى موضعٍ محددٍ ليس تفصيلاً شكليًا، بل هو ممارسة وجدانية تُرسّخ السكون الداخلي، وتُهيئ الروح لذوقٍ أعمق من الخشوع.

وما أجمل أن يكون البصر بوّابة القلب، وأن تُصبح كلّ نظرةٍ في الصلاة طريقًا نحو سكينةٍ أبدية، حيث يذوب التشتت، ويعلو النداء من الأعماق: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون، 1-2].