لا تنسوا الآباء
في صباح صيفي من عام 1909، جلست فتاة تُدعى «سونورا سمارت دود» في أحد مقاعد كنيسة صغيرة بولاية سبوكين بواشنطن، تستمع إلى خطبة بمناسبة «عيد الأم» الذي بدأ آنذاك يلقى رواجًا في المجتمع الأمريكي. كانت العظة تدعو لتكريم الأم والتعبير عن الامتنان لما تبذله من حب ورعاية. استمعت سونورا بإصغاء، لكن ما شغل قلبها لم يكن الأم هذه المرة، بل الأب.
سونورا فقدت والدتها وهي في السادسة عشرة، تاركةً وراءها ستة أطفال وأبًا وحيدًا يتكئ عليه البيت بأكمله: ويليام جاكسون سمارت، جندي سابق في الحرب الأهلية، تقاعد ليصبح مزارعًا. لم يُفكر لحظة في إرسال أبنائه إلى دار أيتام، كما كانت تفعل بعض العائلات آنذاك، بل قرر أن يتحمّل العبء كله، أن يكون أبًا وأمًا، مربيًا ومعيلًا، مرشدًا وصامتًا في آنٍ معًا.
كبرت سونورا وهي ترى والدها ينهض كل صباح قبل شروق الشمس ليُجهّز الإفطار، يوقظ إخوتها للمدرسة، ثم ينطلق للعمل في الحقول. لم يكن كثير الكلام، لكن حضوره كان يملأ البيت، ودفء يديه كان يعادل كل القصائد.
عندما أنهى القس خطبته، كانت سونورا قد اتخذت قرارها وتحدثت بصوت عال:
«إذا كنا نُكرّم الأمهات بيوم، فالأب يستحق يومًا مثله. أبي يستحق هذا، وكل الآباء مثله».
لم يكن الأمر سهلًا لفتاة في بداية القرن العشرين، لكن سونورا كانت عنيدة بقدر ما كانت وفية. طرقت أبواب الكنائس، وراسلت الجهات المحلية، وبدأت حملة صغيرة لكنها صادقة، تطلب تخصيص يوم لتكريم الأب. لم تتحدث عن نظريات أو أرقام، بل روت قصة والدها. وتلك القصة كانت كافية.
في 19 يونيو 1910، الذي وافق يوم ميلاد والدها، أُقيم أول احتفال رسمي ب«يوم الأب» في مدينة سبوكين. كانت المناسبة بسيطة: خطبة دينية، بعض الكلمات، وأناشيد من الأطفال. لكنها كانت كافية لتُشعل شعلة ستستمر لعقود.
لم يكن الاحتفاء على نطاق وطني بعد. السنوات مرت، والحرب العالمية الأولى ثم الثانية أخذت بوصلة المجتمع بعيدًا عن التفاصيل الرمزية. لكن سونورا لم تتراجع. بقيت تُراسل، تُقابل، وتُذكّر بأن الأب لا يزال هناك... يعمل بصمت، ولا يطلب شيئًا.
مع الزمن، بدأت الفكرة تلقى دعمًا، خاصة من التجار الذين رأوا في «عيد الأب» فرصة تجارية كما حدث مع «عيد الأم». ورغم خشية سونورا من أن تُفرّغ فكرتها من معناها الإنساني، استمرت تدافع عنها حتى آخر أيامها.
عام 1972، وبعد أكثر من ستين عامًا من أول احتفال، أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون «يوم الأب» مناسبة وطنية رسمية تحتفل بها أمريكا في الأحد الثالث من يونيو كل عام. كانت سونورا حينها قد تجاوزت التسعين. لم تطلب تكريمًا، ولم تسعَ لظهور إعلامي، لكنها كتبت اسمها في التاريخ، لا عبر جائزة أو شهرة، بل عبر وفاء هادئ لرجل ربّاها في الظل.
توفيت سونورا عام 1978، عن عمر 96 عامًا، ولا يوجد لها نصب يُشيَّد باسمها، لكن اسمها ظل حاضرًا في كل بطاقة تُكتب في عيد الأب، وفي كل طفل يُقدّم وردة لوالده، وفي كل بيت تُرفع فيه كلمة: «شكرًا يا أبي».
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتُنسى القصص الصغيرة لصالح العناوين الكبيرة، تبقى قصة سونورا تذكيرًا لنا بأن بعض الأفكار الكبرى تبدأ من لحظة صادقة، ومن ذاكرة شخصية صغيرة، ومن سؤال بسيط: من يستحق أن يُقال له شكرًا؟