آخر تحديث: 19 / 6 / 2025م - 11:32 م

صمود

هناء العوامي

أصبحت نوال في السبعين، سبعون سنة أرضية.

شعرها أبيض كالثلج، هي لا تصبغه، لم يعد أحد يفعل. كل ما كان في شبابها من المسلمات أصبح ترفًا لا يتمناه أحد. لا أحد يريد سوى وجبة جيدة وهواء نظيف، وألا يموت من الحر. حتى العدسات التي تريك الأشعة تحت الحمراء لم تعد سلعة مرغوبة، إذ إن معظم الناس بات يفضل عدم رؤية الرعب الكائن حوله.

ثلث مياه الأرض قد اختفت منذ بدأ احتلال ”الزطاريخ“، ربع أشكال الحياة انقرضت وكثير غيرها على وشك، ولن يكون الجنس البشري آخر الناجين.

جزء منهم هاجر بالفعل إلى تيتان، قمر زحل، والتواصل بينهم وبين الأرض صعب وشبه معدوم.

ويكاد لا يوجد تواصل بين الأرضيين و”الزطاريخ“، معظم الناس لا يدرون بوجودهم أصلاً، هي تعرف بما أن ”شش“ غدت صديقتها المقربة، وبفضلها أصبحت وزيرة للبيئة ومكافحة الجفاف، ورئيسة لجنة مكافحة الجفاف في الأمم المتحدة إذ قدمت لها حلولًا للتصدي للكارثة البيئية التي تسبب بها غزو شعبها للأرض.

تعتبر الأمم المتحدة نوال عقلية فريدة عبقرية جاءت من أرض صحراوية في أغلبها، ولذا استعانوا بها في مكافحة الجفاف كما كانوا أيام الرخاء يستعينون بقومها في إدارة الازدحام، لم يكونوا يعلمون أنها كانت مجرد وسيط بينهم وبين من تسبب لهم في الكارثة.

وهكذا أصبحت لنوال مكانة مرموقة بفضل صديقة من كوكب آخر.

في مرة من كل خمس محاولات لزيارة كوكب الأرض، يجد ”الزطاريخ“ أنفسهم في زمن سحيق سابق. ”السفر عبر الزمن؟“ سألت نوال بعينين متسعتين، لا تستطيع أبدًا إخفاء مسحة رعب فيهما رغم أنها فعلاً تعتبر ”شش“ صديقتها المقربة، كما أن ”شش“ لا تستطيع منع الشعور بالذنب يهز كيانها كلما نظرت إلى عيني نوال مباشرة. ”نعم“، قالت ”شش“، ”نعم ولا. لم نتسبب في انقراض الديناصورات، لا نستطيع التأثير على الماضي، ولا أخذ عينات منه، نجد أن العينات اختفت بعد أن نعود. نحن فيه مجرد متفرجين، كما يحدث حين تشاهدين فيلمًا وثائقيًا على تلفازك الهولوغرام، لكنه أكثر واقعية.“ ثم ابتسمت بخبث وهي تنظر لعيني نوال مباشرة وأردفت: ”لأنه الواقع ذاته.“

ثم نظرت بلا مبالاة إلى كومة الطوب الملون على الطاولة أمامها لتختار شيئًا عديم اللون يفترض أنه فاكهة ما، وأكملت: ”نحن فقط شهود عيان ونراه بشكل مباشر أكثر. ولا، لم يحدث أن نقلتنا الثقوب الدودية إلى المستقبل قط، فقط الماضي، وليس الأمر باختيارنا، لكن بفضل هذا الأمر أصبحنا نعرف كوكبكم جيدًا.“ ثم سكتت لوهلة قبل أن تردف: ”يؤسفني أننا نزدهر على حسابكم.“ أشاحت نوال طرفها عنها لتحدق في الجدار وتزم شفتيها بغيظ مفكرة: ”لا أظنك آسفة على الإطلاق.“

شعرت ”شش“ بما يدور بخلد صديقتها، لكنها آثرت أن تتجاهل ذلك ولا ترد عليه.

فقط لبرهة قصيرة قبل أن تقول بإصرار: ”حروبكم كانت كثيرة قبل قدومنا، الآن هي شبه منعدمة.“ لم تقو نوال حتى على التفكير بأن العدو الوحيد ليس فقط أقوى من أن يواجهه كوكب الأرض ولو اتحد ضده، بل إن معظم سكانه خاصة من البشر غير مدرك لوجوده، حتى الكلاب لم تعد تنبح عند اقتراب ”الزطاريخ“ كأنها سلمت بوجودها، أما الروبوتات التي أصبحت تجول في الأرض أكثر من البشر فيبدو أنها ترى فيهم مجرد عرق بشري آخر. إنهم وعي بيولوجي كيميائي وليس رقميًا. وهم يسافرون بين الكواكب ويراكمون المعرفة بينما أعمار سكان الأرض القصيرة وبنيتهم الضعيفة لا تسمح لهم بالسفر بين الكواكب حتى لو توفرت التقنية اللازمة. على الأقل ليس أكثر من مرة وربما مرتين خلال حياة واحدة، وقد لا ينجو المرء من المحاولة الأولى. كان ”سعيد“ قد مات خلال محاولة نقله للمرة الثانية لكوكب ”الزطاريخ“، المرة التي رحل فيها باختياره، قال لنوال: ”نعم إنهم يستهلكون أغلب موارد الأرض لكنهم كذلك يحسنون استغلالها أفضل منا بكثير ولم نكن لننجو لو لم يقدموا لنا تلك التقنيات المتقدمة والحلول التي بدت سحرية للكثير من الأرضيين، فاز كثيرون بجائزة نوبل فقط لأن ’الزطاريخ’ اختاروهم للتواصل معهم ولعب دور الوسيط، وقُدِّرَ أنهم قادرون على تحمل العبء النفسي ولو أن عددًا لا بأس به منهم قد جُنَّ. الروبوتات لعبت دورًا لا بأس به ولو أنها تخلط كثيرًا بين مصادر المعلومات، اسألها عن موسم الكرز وقد تخبرك أنه غير متوفر على كوكب الأرض، والبعض منها يخبرك بيقين أن الجنس البشري قد انقرض.“

أحيانًا تظن نفسها قد جُنَّت وأن ”شش“ مجرد وهم من وحي خيالها أو هي حلم مزعج، ليست الوحيدة التي تشكو من الهلاوس، والتي تُعزى إلى التلوث والتغير المناخي وسوء التغذية العام، تتلقى رسائل بشكل شبه يومي للتبرع لجمعية ”فلنعدها خضراء“. وأحيانًا يصل بهم الإصرار إلى طرق باب منزلها.

”تجاهليهم وحسب، إنهم لا يحدثون أي تغيير.“ أجفلت وهي تسمع ”شش“ ترد على أفكارها.

المشكلة ليست البشر، بل الروبوتات، الذكاء الاصطناعي الذي لا يحتاج إلى أن ينام ولا أن يأكل. يبدو أنه لا يتعب ولا يشيخ كذلك، والجملة التي تواجهها كل يوم تقريبًا: ”أثبت أنك إنسان!“ ألا يبدو علي التعب بما يكفي لإثبات ذلك؟

لكن الشخص الذي دق جرس منزلها كان يبدو بوضوح أنه إنسان، ما جعلها تشعر بالألفة. هي تكره أجراس الهولوغرام التي تجعل الشخص يبدو بالداخل قبل أن يكون بالداخل، وتفضل النمط البسيط القديم. فتحت الباب بسرعة لأنها عرفت صوته، سوف يطلب بعض التبرعات أو يوزع منشورات إنقاذ كوكب الأرض إياها. كثيرون يرون أن هذه الأساليب القديمة تثير الحنين وبالتالي التعاطف. أرسل رسالة هولوغرام عالية التقنية وسوف يمسحها الناس قبل الاستمتاع بمحتواها المبهر. تجمدت ”شش“ وتحولت إلى تمثال سيريالي فاخر ساحر انتصب على جانب المكان. نظر الرجل إلى ”شش“ بحنق، كثيرون يجدون صعوبة في الحصول على غذاء غير سام، لكن آخرين يملكون من الرفاهية ما يخولهم لاقتناء مثل هذه التحف التي لا بد وأنها غالية الثمن بشكل فاحش. ثم رأى ثمار المانجو النادرة بدورها على طاولة قريبة بجانب طوب ”شش“ الملون. التقط السكين من الطبق وأخذ يطعن نوال بلا توقف.

آه نسيت أن أخبرك بأن الدول عامة ضعفت في ذلك الزمن وقل الأمن. لم يكن القتل بدافع السرقة أمرًا خارج المألوف.

تأملت ”شش“ المشهد ولم تتدخل، وهي تفكر بأنه ربما من الأفضل اقتناء إنسان أليف يملك مثل هذا الاندفاع وهذه الطاقة وهذا العزم. إنسان لم يعاصر ما قبل غزو شعبها للأرض ولن يشعر بالحنق من وجودهم بل يراه من المسلمات، وأن تسخيره سيكون أسهل بكثير.

لكنها بعد تأمل وجيز قررت أنها علاقة مملة فارغة مقارنة بصديقتها القديمة. ومن ثم قررت أن تجرب جعله يموت رعبًا قبل أن تستولي على كل قطرة ماء في جسديهما. لم يتبق منهما سوى بعض الغبار.

وداعًا نوال. وداعًا يا صديقتي، ربما كنت سأنقذك لو علمت أنك ستكونين سعيدة ما تبقى من حياتك.

شكرًا على طاقة ”الروار“ التي قدمتها لي. لا بد وأنها سترضي أبي كثيرًا.

تمت.