حين يصمت العاقل، يعلو صوت الحمقى
كثرةُ الأصوات لا تعني وجود رأي، وارتفاعُ النبرة لا يدل على رجاحة عقل. في زمنٍ طغى فيه الضجيج، صار من يمتلك الحكمة يتردّد؛ لأنَّه يعلم أنَّ الهدوء لا يُسمع في عاصفة الثرثرة، فقد امتلأت المنابر بضجيجٍ لا يصنع وعيًا، وتحوَّلت المساحات إلى ساحات يُهيمن عليها من يُختصر عندهم كلّ جدل في سخريَّة، وكل حوار في تهكم.
وحين يُزاح صوت الحكمة عن المشهد، لا تبقى الساحة خالية؛ بل يملؤها من لا خُلق لهم ولا منطق، ويُصفق لهم جمهورٌ لا يبحث عن الاتزان ولا الفكرة الوازنة، وإنَّما عن التصعيد والانفعال والاصطفاف. وما إن يغيب صوت العاقل أو يتأخر، حتَّى تُبادر الألسنة باتهامه بشيءٍ من الجُبن أو التَّخاذل، واتّهاماتٍ أخرى، كأنَّما الصراخ هو المعيار الوحيد للشجاعة. وهكذا يغدو الصمت موقفًا لا يُفهَم في زمن الضجيج.
لم نصل إلى هذه المرحلة عبثًا؛ لكن عبر مسارٍ طويلٍ من التراخي في القيم، وتحوُّل الذوق العام إلى استهلاك ما يُثير لا ما يُنير. في منصاتٍ تُكافئ الضجيج الصاخب، لا مكان لصوتٍ رصين. وفي بيئاتٍ تعيد تداول اللقطات لا الأفكار، يرتفع صوت النشاز؛ لأنَّه ببساطة ”أعلى“، لا لأنَّه أصدق أو أعمق.
ثمَّ إننا كمجتمع اعتدنا أن نقف على أطراف الحلبات نشجّع المتنازعين، وننتشي بالمناوشات، من دون أن نسأل: ماذا قيل؟
وماذا ضاع بين الصراخ؟
ولهذا يَكسب المعارك دائمًا من يجيد فن الاشتباك، لا من يحسن لغة البناء. يكسبون الجولات؛ لأنَّ العقلاء بطبيعتهم لا يدخلونها أصلًا، ولا يرونها ميدانًا صالحًا للمواجهة، فيُحسب غيابهم خسارة، وهو في الحقيقة موقفٌ منسجم مع وعيهم.
العقلاء انسحبوا، أو إن صحَّ التَّعبير، أُجبروا على الانسحاب، ولم تعد الساحات تتَّسع لصوتٍ متزن؛ لأنَّها أصبحت تعجّ بمن لا يترك لأحد فرصة الحديث دون أن يُقاطعه، أو يُسفّه رأيه، أو يسحبه إلى مستنقع التلاسن. ووسط هذه البيئة المستهترة، التي لا ترى في الحوار سوى مادة للعرض والإثارة، بات الدخول مكلفًا؛ ليس على العقل فحسب؛ بل على السمعة، والكرامة، والنيَّة الصادقة.
ولذا، تجد أصحاب الرأي الصافي يكتفون بالمراقبة؛ ليس لأنَّهم عاجزون؛ وإنَّما لأنَّهم يرفضون أن يُزج بهم في معارك بلا أخلاق، ولا ضوابط، ولا نهاية.
أمَّا في فضاء التواصل الحديث، فالصورة أوضح وأقسى. والمنصات التي فُتحت لتوسيع دائرة الرأي، أصبحت تُضيِّق على الرأي الرزين. فمن يكتب بهدوء واحترام، يُعدُّ مملًا. ومن يُحاور بأدب، يُوصف بالضعف. وأمَّا من يصرخ ويشتم ويُثير، فهو من تتصدر تغريداته، وتنتشر مقاطعه، ويكثر متابعوه.
هنا لا مكان للتدرّج في الفكرة، ولا للاتزان في الطرح. لا يُطلب منك أن تكون محقًا، بل أن تكون لافتًا. وكلَّما أفرطت في التهكم والتجريح، ازداد تفاعل النَّاس معك، ولو على حساب الحقِّ والحقيقة؛ ولهذا، بات العاقل يكتب سطرًا ويمسحه، أو يتردد في إبداء رأيه؛ فهو يدرك أنَّ الردود جاهزة، والتأويلات مفتوحة، وأنَّ الدخول في هذه الحلبة لا يُنصف أحدًا.
منصات التواصل التي كان يُفترض أن تكون مساحة للارتقاء بالفكر الجمعي تحوَّلت إلى مضمارٍ للتشويه، والاصطفاف، وتصفية الحسابات. ومن يكتب بعقل، يشعر كأنَّه يصرخ وسط سوقٍ مزدحم لا أحد فيه يسمع، حتَّى لو صرخ من شدَّة الوضوح.
وعلى الرغم من هذا المشهد المربك، لا يزال في القلب فسحة أمل؛ فحتَّى وسط هذا الضجيج، يظل هناك من يُقدِّر الكلمة الصادقة، ويحترم الرأي المتزن، ويبحث عن صوت الحكمة وإن خفت. صحيح أنَّ الواقع يخذل أحيانًا، والمنصات باتت لا تُنصف؛ لكن المجتمعات لا تخلو من العقول الناضجة والضمائر اليقظة، التي تُدرك الفرق بين الصوت العالي والصوت العاقل.
إننا لا نكتب يأسًا، ولا نصف الواقع تهجمًا؛ بل لأننا نؤمن أنَّ التذكير له أثر، وأنَّ الكلمة الراشدة قد تصل وإن تأخرت. وأنَّ عودة العقلاء إلى مواقع التأثير، ليست مستحيلة؛ لكنَّها تحتاج منَّا جميعًا أن نُعيد الاعتبار لما يُقال، لا لمن يقوله بصراخ.
لقد آن للعقلاء ألَّا يغيبوا، لا بالصمت، ولا بالانسحاب. فالمشهد اليوم لا يحتاج ضجيجًا جديدًا؛ بل يحتاج من يُعيد التوازن للغة، ويضع العقل في موضعه الطبيعي. لسنا بحاجةٍ إلى من يصنع المعارك، بل إلى من يُطفئ نارها، ويُعيد للمجتمع إيمانه بالحوار الهادئ، والرأي المتزن، والنقد النظيف.
صحيح إنَّ الواقع ليس مريحًا، وأنَّ الأجواء لا تشجِّع دائمًا، لكن ترك الساحة لغير أهلها يعني أن يستفحل الخلل، وتتعاظم الفجوة؛ فالكلمة الطيبة لا يجب أن تغيب، حتَّى وإن غرق الفضاء العام في الضجيج، وصوت العقل، وإن تأخَّر وصوله، يبقى الأصدق صدى والأبقى أثرًا.