آخر تحديث: 4 / 5 / 2025م - 2:32 م

في رحاب الطاعة.. وفي خضم الفوضى

قصي الخباز

﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

هكذا يتردد صدى الآية الكريمة فتراه يجلجل في أرجاء الروح، ويدعونا إلى امتثالٍ يرجى معه نفحات الرحمة.

وبينما أستحضر هذا النداء الرباني، يلوح في خاطري مشهدٌ حيٌّ، صورةٌ تختزل في تفاصيلها شيئًا من معاني الطاعة والانفلات.

أتذكر ذلك التقاطع المكتظ، حيث تتزاحم المركبات في صمتٍ خانق، وحركة السير تكاد تجمد في مكانها.

هكذا تجلى المشهد أمام عينيَّ البارحة، حين ولجتُ بمركبتي قلب هذا المعترك المروري قادمًا من أحد الشوارع الأربعة، يا له من جمود! تخيل أن الزمن نفسه قد تيبّس، وأن عقارب الساعة تحجّرت في مكانها، وأن أصوات الحياة تحوّلت إلى صدى باهت، وكأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة.

هذا الركود البادي للعيان أيقظ في نفسي بواعث التأمل، وأثار في ذهني أسئلةً تتزاحم: لماذا اندفع هؤلاء السائقون جميعًا إلى هذا المضيق في آنٍ واحد؟ ألم يستشعر كل واحدٍ منهم في أعماق ذاته، أن له حق التقدم، وأن على الآخر أن يترقب دوره؟ «هذا لعمري جانبٌ نفسيٌّ، إحساسٌ وجدانيٌّ يلفنا في غمرة مثل هذه المواقف».

ثم يلوح سؤالٌ آخر في الأفق: لماذا لم تُنصب هنا إشارةٌ ضوئية، تهدي المسير وتنظم الانسياب؟ «وهذا وجهٌ آخر للتأمل، زاويةٌ نفسيةٌ تتجاذبها الآراء».

ففي حنايا بعض النفوس، يترسخ اعتقادٌ بأن كثرة الإشارات تعيق انسيابية المرور، وأن لولا سطوة القوانين لما امتثل لها أحد.

بينما يرى آخرون في الإشارة الضوئية نبراسًا يهدي الحركة وينظمها، ويدعو الجميع إلى التزامٍ لا محيد عنه.

وكمثالٍ حيٍّ، يحضرني صورة الطفل الجالس في مؤخرة السيارة، الذي لم يدرك بعد منطق القيادة، تراه يتعجب أو يتململ لو توقفت المركبة فجأةً، ويسأل ببراءة: لماذا هذا الثبات؟ لأنه ببساطةٍ، لم يستوعب بعدُ ضرورة التوقف لإدراك المعلومة أو الامتثال لإشارة.

وها هنا يتسلل السؤال إلى ذهن القارئ الفطن: ما الرابط العميق بين هذا المشهد العابر وتلك الآية الكريمة المفتاح؟

الحقيقة أيها القارئ النبيل، أن غايتي من تدوين هذه الخواطر ليست مجرد وصفٍ لتلك الحادثة العابرة، بل هي محاولةٌ لتجسيد معنىً أعمق، لتطبيقٍ حسيٍّ لما أود أن أبيّنه لك من اختلاف النظرة البشرية إلى الأحكام الإلهية.

صحيحٌ أن الآية الكريمة نزلت في سياقٍ بيانيٍّ لهزيمة المسلمين في غزوة أحد، مبينةً أن سببها هو مخالفة الرماة لأوامر الرسول الأكرم ﷺ، إلا أن الشاهد الذي نقصده في الآية، هو مفهوم «الطاعة والمعصية» ذاته.

تأمل معي، على سبيل المثال، نظرة من يرى أن التزام الفرد بالصلاة ليس إلا تنظيمًا للوقت وإدارةً للنفس بين متطلبات الروح والجسد. وفي المقابل، يرى آخر أن الصلة بالله هي تكليفٌ وعبءٌ ثقيل.

ومثالٌ آخر، كيف أنَّ غض الطرف يراه البعض ضربًا من ضروب التزمت والرجعية، وكبتًا لطاقات النفس، وأن قمع الرغبات يفضي إلى اعتلالاتٍ نفسية.

بينما يرى فريقٌ آخر في ذات الممارسات عنايةً واهتمامًا إلهيًا بالإنسان، صقلًا لروحه وتهذيبًا لسلوكه، ونورًا يضيء دروب حياته ويزيد من سمو أخلاقه.

ولو أسقطنا هذه الأمثلة على سائر الأحكام الإلهية التي شرعها الله عز وجل لتقويم سلوك الإنسان وتهذيبه، لعلمنا يقينًا أنه لولا هذه التشريعات، لكان حال مجتمعاتنا كحال ذلك التقاطع المزدحم، فوضى عارمة تعم الأرجاء.

ولكني لن أتوقف بك أيها اللبيب عند حدود تبيان صلاح هذه الأحكام للمجتمع فحسب، بل سأرتقي بك إلى آفاقٍ أوسع، قبل أن تستبد بك ثورة النفس وينطلق لسانك مسارعًا بالرد دون تروٍّ.

فأقول: إن نفس الإنسان، على الرغم من وحدتها الظاهرة، هي أشبه بمجتمعٍ داخليٍّ متعدد القوى، يحتاج إلى تنظيمٍ دقيقٍ وتقنينٍ محكمٍ وتهذيبٍ مستمر، وهذا لا يتحقق إلا بإحكام القبضة عليها من قبل خالقها العليم.

وإن عدم إدراكنا لحكمة المشرع في بعض الأحكام الإلهية التي شرعها لنا، لا يسوغ لنا بحالٍ من الأحوال رفضها أو الاعتراض عليها، لأن حالنا في هذا المقام كحال ذلك الطفل الذي يجهل الحكمة من وضع إشارة المرور الضوئية.

ألفت انتباهك أيها العزيز إلى أن حديثي في هذا المقام يقتصر على الجانب النفسي وردود الأفعال تجاه الأحكام الشرعية.

أما الجانب التطبيقي أو العقلي العملي، فهو بحثٌ آخر وإن كان له صلةٌ وثيقةٌ بهذا الموضوع.

ختامًا، وقبل أن تشتعل فينا جذوة القبول أو يلفحنا لهيب الرفض، أرجو التروي قبل إصدار الحكم، ثم التأمل مليًا في مقام النفس وأي منزلةٍ نضعها فيها.

ولك أضيف أبياتا من قصيدة لي كتبتها عن النفس علها تروق لذوقك الأدبي:

تُخَاتِلُنِي سَاعَةً بِالذُّنُوب
وَطَورًا تُزَيِّنُ لَحنَ الحَيَاة

أَقُولُ وَقَد جَاوَزَت مُهجَتِي
سِنِينًا بِخَمسِينَ وَالعُمرُ فَات

أَيَا نَفسُ مَهلاً إلَامَ الهَلَاك
أَيَا نَفسُ مَا تَسأَمِينَ الفُتَات

ألَا لَكِ مِن زَاجِرٍ رَادِعٍ
يُرَسِّخُ فِيكِ صِرَاطَ النَّجَاة

والحمد لله رب العالمين