أحاديث شجن عند قبر الحبيبة
منذ رحيلك يا أماه، لم ينقطع الخَطْوُ لمنزلك الجديد؛ نأتي إليك خِفافًا لنستأنس برهةً من الزمن عند حيز مُستَقَرِّك، لكننا نرجع بجرِّ الأنين، والدموع فيضٌ، ولَوْعات القلب حسراتٌ، آهاتٌ تترادف كلما بسطنا أحاديث الهوى في دارك الحزينة.
أربعون يومًا نزورك، نقرأ الفاتحة، وما تيسر من الذِّكر الحكيم. نتكئ على وَجَع الأرجل والأقدام المتعبة، ننظر لأصابع اليد المرتجفة عند شواهد القبر، أين ذهبت تلك المصافحات لكل ما سبق من أعمارنا؟ كنا نمدها شوقًا ولهفةً، فيسري في عروقنا دفء الحب والأمان. كم شبكنا الراحَ بالراح أيام الهناء والعودة من الأسفار، نبسط أيدينا كل البسط في كنف حنانك اللامحدود وجَنان مُحَيَّاك.
الآن نتأمل الكفَّ، نتحسس أثر السلامات، نقلب الأصابع بين قبضةٍ وبثِّ زفرات، أصداء التيه تربكنا، أَمَنْ يهدينا إلى سواء دروب الأمس؟ فنحن عِطاشٌ بعد مرارة الغياب، آه! لم تُنبئنا الأيام بأن رحيلك يا يُمَّاه سيتزامن مع قرب فرح الأمة الإسلامية العابر للحدود، تهاني العيد مرت علينا مرور الكرام، لم نستشعر بجمالها ولا بطعم حلاوتها كما اعتدنا سابقًا، ولا حتى بصداها، لأن جرحنا للتو كان طريًّا، ففي الحلق غُصَّة وتنهيدة حسرة.
مع نسمات عصرية يوم عيد الفطر، سالت دموع العين برفقة الإخوة والأخوات، ونقول: هذا أول عيد يمر علينا دون وجودك معنا، كنا نلتئم في البيت مُطلقين عِنان الفرح، واليوم عند قبرك نتحلق واجمين، لا عيد يا أمي خلف أسوار الحزن، يُخَيَّل إلينا بأنك مسافرة وعما قريب ستعودين، لكننا لم نعهدكِ سفرًا أيام الأعياد منذ وَعَيْنَا للدنيا، أصحيح سافرتِ عنا بلا عودة؟ أين نلقاكِ؟ في مسالك الأحلام، وآه منها ومن مشاهدها الصادقة الصادمة التي ساقتنا دليلًا بالاستعداد لما هو آتٍ.
هي الأحلام التي أبلغتنا بانتقالاتك المتواترة قبل بدء المرض، مرورًا به حتى مسار الرحيل.
أخبرنا أحد أحفادك، عباس عبد المنعم شلي، بحلمه الذي رأى نفسه جالسًا في غرفة عمته فاطمة يتحدث معها، بينما حسين خميس ابن عمته زينب يستمع لهما، وإذا بأصوات غريبة تصدر من خلف النافذة، سكنهم الخوف والوقت ليلٌ. وإذا بكِ تدخلين البيت قادمةً من مأتم أم محمد العقيلي «بدور»، وقالوا لكِ عن الأصوات المخيفة المتصاعدة خلف النوافذ، وقلتِ لهم بأنكِ ذاهبة لرؤية ما يحدث غير مكترثة ولا خائفة، حين ذهبتِ وإذا بكِ تصدرين صرخة مدوية مع ارتطام شيء على الأرض، ذهبوا جميعًا ليستكشفوا الأمر، فشاهدوكِ جسدًا صريعًا في تهوية البيت، فَزِعُوا فزعًا شديدًا، ”أمنا العودة ماتت ماتت“، وإذا بالنسوة يتوافدن للبيت لتقديم التعازي.
وبعد أسبوعين تقريبًا، أطلقتِ صرختكِ المدوية حينما سقطتِ من فوق السرير وتقعين في براثن المرض.
أم ابنك الأكبر راوده حلم وراء حلم، وكل حلم له حكاية، الأول جاء على النحو التالي:
كان يقود سيارته بجوار بيتك، ورأى حشدًا من النسوة عند الباب الخارجي جالسات ومتكومات بعباءاتهن السوداء وهن في نياح يضربن رؤوسهن بالكفوف، ترجل من السيارة يتلعثم بالكلام ويقول لهن: «أمي ماااااتت.. أمي ماتت»، ردت عليه إحداهن: «أمك ما ماتت، أختك فتحية اللي ماتت»، زاد صراخه: «فتحية ماتت ويش فيها، وچيفه ماتت، يا ويلي عليك يا أختي»، بعد أن تنفس الصبح جلس وأخبر زوجته بما رأى، أوصته بأن يتصدق.
مرت ثلاثة أيام فأخبرتنا رياح الزمن بما لا نشتهي ولا نرغب، لقد تم نقل الوالدة فجرًا للمستشفى، وحينها مررنا في صراع وألم واشتعال الأمل إلى أن خَبَا أُوَارُه مع اقتراب نهاية 90 يومًا من العلاج، فجاء الحلم الثاني مناديًا بقرب الرحيل:
حيث رأى ابنك الأكبر نفسه يمشي في ساحة مهرجان بستان قصر تاروت في ليالي رمضان، حتى رأى أحد أصدقائه القدماء، الأخ علي الدرورة، يسأله عن والدته، حضنه وبكى بحرقة على كتفه وقال له: أمي بين الحياة والموت.
وفي ظهر اليوم التالي جاءنا الخبر الصادم الذي هزنا هزًّا: «الحاجة مريم هبوب في ذمة الله»، إنه يوم مشهود بالنسبة لحياتنا، أصبحنا في يوم 25 رمضان 1446 هـ، الموافق 2025/3/5 م، أيتامًا، نعم بتنا بلا أم وأب، هو شعور قاسٍ أرتدينا فيه إلى طفولتنا، إلى مراتع صبانا، لا نلوي على شيء ضائعين تائهين وكأننا بلا حضن حنان ولا مأوى لبركاتهما، أن تفقد الوالدين اللذين كانا يدعوان لك ليل نهار، وتأتي اللحظة التي يتوقف اللسان عن مناداتهم ولا يجيبونك أبدًا، شيء قاسٍ وموجع، ويبقى رحيل الأم أكبر حتى من الألم نفسه.
يا عمر أمنا الذي تَصَرَّمَ مع تَصَرُّم ليالي الشهر الفضيل، هي الذكرى العطرة أوقات السحر، حين يطرق سمعنا إيقاع الطبل بصوت أحمد المُسَحِّر: «ودعوا يا كرام شهر الصيام.. الوداع الوداع يا شهر الله...»، حينها يا يُمَّاه تطلقين جملتكِ المعهودة في كل عام، وسمعناها منكِ مرارًا منذ نعومة أظفارنا إلى أن خطنا الشيب، كنتِ تقولين لنا بنبرة أسى: «إيه يا أولادي رمضان بيعود لكن احنا بنعود وياه أو ما انعود»!
هو الحدس، هو الاقتران بزفرة الحسرة المتوالية في كل عام، لكن لم يُسعفكِ الوقت لتقوليها نُطقًا مع آخر رمضان نشهده معكِ، لقد ترجمتِها فعلًا ورحلتِ عنا وكأنكِ على موعد مع جملتكِ المنتظرة التي تبثينها منذ سنين، فجاءت مصداقًا في الوقت عينه لتؤكدي مقولتكِ سارية المفعول على الأنفس جمعًا، إيقاع جملتكِ تزامن مع رحيلكِ على وقع نداءات الوداع في مجالس الذكر، سافرت روحكِ إلى السموات العلا، وداع ما بعده لقاء يجمعنا في رمضان القادم.
لقد تجرعنا مرارة الفقد ولَوْعات الحرمان، وتوارد حلمان لابنك الأكبر:
بينما هو يسير في شارع فسيح بجوار محلات تجارية، حتى رآه دكتور المخ والأعصاب عادل عثمان، الطبيب الذي أشرف على علاجكِ في مستشفى دله بالخبر - السلام سابقًا -، وقال له: «إيه أخبار الوالدة، طمني عليها، إن شاء الله كويسة»، رد عليه وغالبه البكاء: «أمي أعطتك عمرها فقد انتقلت إلى رحمة الله»، «إزاي.. لا حول ولا قوة إلا بالله». نظر إليه مدهوشًا لا يلوي على شيء، وفجأة اختفى الدكتور عن ناظره.
بينما جاء الحلم الآخر كالتالي:
كان يتحدث مع أخيه عبدالحي وسط بيت والدهم بإغرائه للسفر، قائلًا له: سنسافر إلى مدينة بورصة فهي جميلة وفيها حي قديم يذكرنا بعض الشيء بمنازل الديرة، رد عليه: يا الله نسافر بورصة بورصة، وبينما يهمان بالخروج لمحا امرأة نازلة من سلم خارجي يُهَيَّأ لنا بأنها إحدى الجارات وهي تقول: «سافروا ترى أمكم لا تخافوا عليها راحت إلى رب كريم في شهر كريم».
بعد يومين من الحلم زرت مركز صحي تاروت لمعاودة تحليل الدم مجددًا، وأثناء إجراء الوزن وقياس الضغط، قالت لي الأخت الممرضة أم أحمد خالد القديحي: «عظم الله أجرك أستاذ عبدالعظيم، رحم الله الوالدة رحمة واسعة ومسح الله على قلوبكم بالصبر، أمكم جارة عزيزة ونعم الجارة، أعرف بأن فراق الأم صعب، أني قبلكم فقدت أمي في شهر شعبان»، بادلتها العزاء بمواساة أخوية، مفوضين الأمر لله سبحانه وتعالى، نعم هذا حال الدنيا، وبينما أهم بالخروج تبعتني كلماتها التي تبعث على الطمأنينة: «أم عبدالعظيم لا تخافوا عليها إنسانة مؤمنة، راحت لرب كريم في الشهر الكريم».
بين الأحلام والواقع تواصل أثيري بل نبوءات مرسلة، كيف لحلم يكون رؤيا محققة؟ والمدهش بأن جميع أبنائك حلموا بكِ، وكل له حلمه الذي يشير إلى حدوث أمر جلل متعلق بكِ، وبأن رحلة عمركِ انقضت.
آه يا يُمَّاه، خلال أربعين يومًا من غيابكِ عنا لم ننقطع لزيارة قبركِ، نتقلب بين التسليم بقضاء الله وبين أوجاع رحيلكِ عنا، حيارى يغالبنا الدمع مدرارًا، نرش عطر الحنين صورًا من شوق لحكاياتكِ التي لا تنقضي، وكأننا نعيش على طيفكِ، على صدى صوتكِ، على نداءاتكِ، متنقلين بين أضلاع السنين وأنفاس الذاكرة، مُمددين بالتهيؤات بإحياء تلك اللحظات العذبة والأوقات الجميلة، هنا جلست أمي، استدارت، نادت، استرسلت، سألت، ساخت السمع، عقبت بتسبيحات الذكر، يا ألطاف تبتلها قبلة يقين، سجدتها خشوع، دعاؤها لنا طمأنينة نفس.
ابنك الأكبر ظن بأن في العمر بقية ليستكمل معكِ حلقاته المعنونة «أمي من فريق الأطرش»، والتي لم ينتهِ منها بعد، فعندما أُدَوِّن يا يُمَّاه عن حياة الأولين وأُبرز الأجواء التي عاشوها من كد وعمل وحزن وفرح، هو من باب التكريم لهم، ورد الجميل للأرض التي عاشوا عليها، فعبر ذاكرتكِ يا يُمَّاه كتبتُ أشياء من سيرتكِ، وكتبتُ عما سمعتيه بنفسكِ من جدتي ونسوة فريق الأطرش، واسترسلتُ كثيرًا في التدوين بعد أن فتشتُ ذاكرة الرجال الأحياء الذين ضمهم فريق الأطرش؛ لأُكمل أحداث ووقائع لا تعرفين تفاصيلها، هي إضافات نوعية لما بدأتُ به معكِ عن مكان شهد ميلادكِ ورباكِ، وعن أيام طفولتكِ ومراتع صباكِ ممزوج بجزء من ذاكرة خالاتي وخالي ومن شاطرهم في العمر، وأيضًا ذاكرتي.
نعم يا يُمَّاه، ثمة قصص وحكايات أبلغتني إياها محفوظة صوتًا لم أُصغها سطورًا بعد، وحين تكتمل سوف أُعاود النشر مجددًا ليطلع عليها القراء الكرام، لكن بعد أن أسترد عافيتي المتعبة وأن أملك الشجاعة لأسمع صوتكِ تسجيلًا لمعاودة التدوين، فكم أحتاج لأروض النفس، ربما شهورًا، أكثر لست أدري، لكني سأوفي بوعدي وأُعاود السرد مجددًا.
يا يُمَّاه، خلال الأربعين يومًا الفائتة زرتكِ في كل الأوقات، آتي إليكِ لأهدي من رَوْعي، لأقلل من حسرتي، وشهدتُ بنفسي نحيب الآخرين عند قبور أحبتهم، شيء يُدمي القلب، وأبكي معهم وأستشعر بأني أتخفف بعض الشيء من حسراتي.
ذات يوم أتيتكِ ظهرًا بخلاف زيارات العَصَاري، ولم أرَ وقتها أي زائر في المقبرة، خاطبتكِ بصوت مسموع، أتصدقين يا يُمَّاه بأن رحيلكِ عنا على الرغم من فداحة خسارتنا بغيابكِ الأبدي عنا، كشف لنا عن معدن كثير من الناس، ناسنا طيبون متضامنون معنا كأنهم أهلنا، وهم الأبعدون صاروا للنفس أقرب، لا زالوا إلى اليوم يتصلوا بنا ليطمئنوا علينا، بالنسبة لي لحد الآن يهاتفونني بكلمات جلها مشاعر فيض واحتواء، أي نبل تحمله هذه الأنفس الخيرة، فقد حاولت ما بوسعها بالتخفيف عنا من أوجاع الفقد بالاتصال المتواصل.
هذه الأنفس العالية كيف نوفي إحسانها؟ وعند أهل الكرام طيبة متجلية، وها هو الأخ حبيب حمود يرسل برقية تعزية ومشاعر مواساة شعرًا:
«أستاذي وعزيزي وحبيبي
يسعد صباحك بكل خير
أهديك هذه الأبيات المتواضعة بمناسبة رحيل والدتكم العزيزة مع شديد الاعتذار إذا جددت عليكم وجع الفراق.
«عظم الله أجرك»
عظم الله أجرك يا أستاذي الحبيب
في وفاة الوالدة يا الغالي
هذا أمر الله وما ينفع طبيب
درب كل سالكه بالتالي
ربي يرحمها ويحشرها قريب
مع رسول الله وكل الآل
ربي من ناجاك أبدًا ما يخيب
يا عظيم الشأن أنت الوالي
ربي يا مولاي يا حق يا مجيب
تلطف بحالها يا متعالي
وارأف بحال اللي فاقد له حبيب
بالصبر وأنت أعلم بكل حال
آخر الأحزان وربي يستجيب
لك دعاك بحقها بالتالي
عظم الله أجرك يا أستاذي الحبيب
في وفاة الوالدة يا الغالي.
أسأل المولى الكريم أن يمن عليك بطول العمر والصحة الدائمة بحق محمد وآله الأطهار.
حبيب حمود / أبو مظاهر
6 شوال 1446 هجرية»
لك من القلب يا أخي الأكبر جل التحايا وأعذب السلامات يا من تشاركني في الأحزان والأفراح، فوجهك السمح والمتبسم دومًا هو انعكاس لقلبك الشفيف الناضح محبة للرفاق والأصحاب، أنت حبيب اسم على مسمى.
وأيضًا يا يُمَّاه وصلني تسجيل صوتي من الأخ إبراهيم الزين يفيض محبة باذخة، كلمات كأنها بردًا وسلامًا، شاطرني الحزن لأنه سبقني لفقد والديه، وبعد أن استسمح مني باعتذار من نفسه الكريمة لأنه لم يتمكن من حضور مجالس الفاتحة، فاته أيضًا أن يعزيني بتعزية مكتوبة أو مهاتفة، وقلت له عبر تسجيل مطول خلاصته يتمثل في عبارة منسوبة لمولانا علي بن أبي طالب : «أعقل الناس أعذرهم للناس»، فما كان منه إلا أن رد على كلامي شعرًا:
«أتحفتني
يا سيدي بتحية
أدهشت منها
القلبَ والوجدانا
أجريت
من عذب الكلام
حلاوةً كالشهد
تروي الظامىءَ
العُطشانا
هي في الجمال
تفوق نظم قصيدةٍ
ما يُعجز التفصيل
والتبيانا
من طين عشتارت
من صدفاتها
تَحكي الشليَّ
الرائع الفنانا»
شكرًا لك يا أبا عبدالله، أنت الذي أتحفتني بروائع الكلم، سلمت قريحتك وسلم شعرك الجزل.
يا يُمَّاه، مشاعر معارفي وأصدقائي وزملائي وإخوتي من فنانين وفنانات، رسائل امتلأ بها جوالي، لا يسعني أن أنشرها لكنها محفوظة في القلب ولهم خالص الود.
كم أستشعر بأن رحيلكِ كأنه مجرد حلم، لأني أدرك فداحة رحيلكِ القاسية علينا، رحلتِ جسدًا ولم ترحلي روحًا، ستبقين حية في وجداننا، ذكراكِ باقية عبر الحروف والكلمات، عبر الحلقات الماضية والقادمة، وكأنكِ لم تزالي تقصين لي الحكاية وراء الحكاية.
لكن أحبابًا تناوشني الحسرات، وبقبضة يدي ألطم الجبهة والرأس، وأقول: ضيعتُ شيئا ثمينًا لم أقتنصه منكِ، حيث كانت الخطة ترمي بعد أن أنتهي من كل سرديات حلقات «أمي من فريق الأطرش»، وبعدها سأتوجَّه لتسجيل ذاكرتكِ عن مكان ضمكِ لأكثر من 67 عامًا، وأنتِ شاهدتِ على تحولاته وتغيُّراته وأفراحه وأحزانه وكل نسائه ورجالاته تحت عنوان:
«حياة أمي في الديرة» حيث تعتبرين نفسكِ بكل فخر ابنة المكان، صحيح بأن فريق الأطرش شهد ميلادكِ، لكن طفولتكِ توزعت بين المكانين؛ حيث منزل عمكِ الحاج حسن حماد عمدة تاروت - والد الشيخ غالب -، وبيته يقع وسط الديرة مأوى لكم حينما يأتي الشتاء وبقية مناسبات السنة، واستوطنتِ الديرة بشكل دائم من لحظة استقبال نسوة الديرة لكِ بالزغاريد وعلى رؤوسهن صواني شموع، زفوكِ عروسًا سنة 1958 م وأنتِ ابنة 15 ربيعًا، صغيرة السن بل طفلة، تحملتِ الشقاء والعناء ومسؤولية الزواج وضيم الأيام، والحمل واليُتم حيث رحل أباكِ وعندكِ من العمر 12 عامًا، وكأن زواجكِ خروج من قسوة الفقد، ولم تتعدي 17 عامًا أنجبتني قادمًا للحياة، تُقلبينني بين راحة كفيكِ فرحة بأول مولود لكِ «أنت يا ولدي بچري سقيتك من صدري وإذا ما ارتويت تأخذك بعض نسوة الديرة وترضعنك عن طيب خاطر، وخالتكِ آمنة سقتكِ بدل النوبة عشر بل أمرار»، وجُزيتن خيرًا يا أم مصدق خميس ويا أم ياسر عبدالحسين إسماعيل فأنتن أمهاتي اللاتي أرضعتنني من صدوركن، فألف رحمة تتنزل على أرواحكن الطاهرة.
رضيعًا لا أكف عن البكاء إلا حينما أرتوي، حسب قولكِ يا يُمَّاه، وآه من النوح العائد لي من المهد عندما وُوري جثمانكِ الطاهر الثرى، يوم بكيتُ فيه ليس كسائر الأيام، لقد بكيتُ لساعات طويلة منذ إعلان لحظة رحيلكِ وما تلاه بشكل متقطع أيام مجالس الفاتحة، وعاد بشكل موجع يوم ثاني العيد حينما أرسلت لي أختي فاطمة صورتين تجمعانكِ مع أختي فتحية في ليلة عرسها، في الصورة الأولى تُزَغْرِدين وتُصفقين، والثانية مُحَيَّاكِ ينضح سعادة لأول بنت تُزَفِّينها، لابسة ثوبًا هاشميًّا لونه أحمر رُمَّاني ومِلْفَع أسود مُلتف على رأسكِ وفوقه مُشْمَر أبيض وعيونكِ مُكَحَّلة وخُدودكِ رَيَّانة كأنكِ عروس من حلاوتكِ، لحظئذ وأنا أتأمل الصورة انفجرتُ لوحدي باكيًا ورددتُ بصوت مسموع شجنًا عراقيًّا:
«خَطَّار عِدْنَه الفَرَح
اعْلَگ صَوَاني اشْمُوع
خَافَنْ يِمُر بالعِگِد
رِشّ العِگِد بدموع
يا گليبي وين الحِزِن
حِدْر الحِدِر مَرْفُوع
دَوْمَك تُوِنْ وِنَّتَك
تِبْچي بدمع مَفْجُوع»
أن تكون في قمة حزنك على رحيل أعز مخلوق، وفجأة ترى صورة أمكِ تُهَلِّل فرحًا قبل ثلاثين عامًا، أتعيش لحظة التقاط الصورة وتُفْسِح مجالًا للفرح وتُداري الحزن قليلًا، أم يُغالِبك الحزن وتنسى الفرح؟ لحظئذ أدركتُ بأن الفرح مثل ضيف عابر لا تُحَسِّسْه بأنك تعيش الحزن مثل خَطَّار الليل، ضيف آخر الليل العابر أكرمه ولا تُبَيِّن له مقدار حزنك.
أتصدقين يا يُمَّاه أنتِ التي عرفتني منذ طفولتي معنى الحزن وأنتِ تصحبينني من عَزِيَّة إلى عَزِيَّة في بيوتات الديرة، وفي ليلة مُقمرة أسمعتني عند مسجد شيخ علي: «يا طيور طيروا للمدينة خبروا الزهرة الحزينة وقولوا ليها أوليدك ذابحينه»، رحتِ تبكين وأوضحتِ لي أبعاد هذا العزاء وأنا لم أتجاوز الخمس سنوات، مشهد جسد لي الحزن بصور مُتَشَظِّيَة.
آه من الأيام آه، يا حسرتي على عمر انقضى وراح ولم أستثمر ذاكرة أمي على الوجه الأكمل؛ لأسجل كل شاردة وواردة، يا يُمَّاه كم حدثتني عن مرئياتكِ العديدة التي قلتِها لنا سنينًا عن أيام وليالي الديرة، ثمة طقوس ومناخات دارت رحاها في الدروب وسطوح المنازل وعلى تخوم قصر تاروت وداخل عين العودة، وقائع لا تُصدق هي لعالم الخيال أقرب، ما بقي في البال سوى النذر اليسير قابع في الذاكرة، بضعة رتوش وفلاشات سوف تجمع عبر السنة إخوتي وأخواتي وبنات عماتي والقريبين والقريبات.
يا يُمَّاه، أثناء وجودكِ كنتُ أعيش راحة البال، كم من المرات يكون الخاطر مُتَكَدِّرًا نتيجة متاعب وضغوطات الحياة، وبمجرد أن أجلس معكِ وتُدخلينني في حياة الأولين أنسى الحاضر فتصفو النفس ويعتدل المزاج من حيث لا أشعر، نعم كنتِ لنا صمام أمان في الشدة والرخاء.
الآن أصبحتُ سارحًا ضائعًا شارد الفكر، وكأن شيئًا مني رحل معكِ، أحاول أن أستمتع بأشيائي المعتادة فتسكنني الغُبْنَة فجأة، أفقد طعم وحلاوة اللحظة، أحاول أن أُرَمِّم بعضي لأقوى على العيش، تُواسيني زوجتي كلما استطردتُ في ذكراكِ كثيرًا وتقول لي: «على قولة أمهاتنا ليت الحنون يعود»، وتُردف: «كل مر سوف يمر»، هي الدنيا مُتقلبة بأهلها من حال لحال، حينها تذكرتُ مقولة مُهدئة للنفس:
«إذا أتاك ما تخشاه فقل:
حسبي الله..
وإذا فاجأك هم فقل:
وأفوض أمري إلى الله..
وإذا خنقك الحزن فقل:
إنما أشكو بثي وحزني إلى الله».
بك يا الله بك يا الله حتى انقطاع النفس، وعلى مشارف قبركِ يا يُمَّاه ناديتكِ في خشوع مُغمض العينين: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية».
رحمكِ الله يا أمي رحمة الأبرار، ورحم الله جميع الأمهات الأحياء منهن والأموات وكل المسلمين والمسلمات.