التغريدات بين التراشق والتفاهم واستنطاق العِبر
أيها القارئ المحترم، أضع بين يديك السيناريو التالي، وأطلبُ منك بكل احترام إبداء رأيك بعد دراسةٍ وترجيحٍ واختيارٍ واحدٍ من التفاعلات المُدرجة.
السيناريو: تدور أحداثٌ وصراعاتٌ في بقاعٍ متعددة من بقاع العالم، بين أصحاب أيديولوجيات فقهية / دينية / مصالح مختلفة من أبناء ذات الدين أو العرق أو الأوطان، وغرَّد أحدُ المغردين عبر منصة موقع ”X“ بكلامٍ فيه ازدراءٌ وشتمٌ وسبابٌ وتخوينٌ وتحريضٌ وتهكمٌ وقذفٌ بأعراض نساء الآخرين. فما هو أول تفاعلٍ تُبديه؟
كيف يجب أن تكون ردود فعل الآخرين الذين هم بعيدون عن مكان الحدث، وغير متأكدين من سردية الناقل / كاتب التغريدة، ولا متمحصين لحقيقة وهوية وأجندات المغرد:
1 - الانخراط في حفلة الشتائم والسباب، والتحيز مع فريق يُطابق أفكارًا تحملها ضد فريقٍ آخر، بناءً على الأيديولوجيا أو المذهب أو العرق أو القومية أو الدين.
2 - تجنُّب الانسياق في أي صراعاتٍ مؤدلجة، والإعراض عن أي تراشقٍ بذيءٍ ساقطٍ يتعدى على أعراض الآخرين.
3 - الانحياز مع أهل المصالح حيث المال والنفوذ، دون أي اعتبارٍ لموازين الحق والعدل.
4 - اتباع موازين العدل والحق، وتطبيق الآية الكريمة عمليًا: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6].
5 - ركوب الموجة الصاعدة للأحداث، وانتهاز الفرص، والتصفيق لمن غلب.
6 - قراءة المشهد بموضوعيةٍ متجرِّدة، واستنطاق العِبَر والعِظات، وتقوية النفس، وتماسك النسيج الاجتماعي الداخلي والوطني، وبذل الجهود لمنع انتشار التوتر والتلاسن والقلاقل إلى الداخل.
حتماً لكل شخصٍ منا قِيَمٌ وأفكارٌ وقناعاتٌ وتفاعلاتٌ متباينة، إلا أن السلوكيات في التعامل مع الآخرين هي الترجمان الأصدق عن حقيقة هوية الشخص. لأن الشتمَ والقذفَ عند أقلِّ اختلافٍ يعكس أزمةً أخلاقيةً في ذلك الوسط الاجتماعي. فإلزام النفس:
1 - بتجنب حفلات الشتم، وتجنُّب التطاول على أعراض الناس.
2 - بحسن التعبير عن الأحداث والأفكار، والتعبير الصادق والواضح عنها، يجعله من أهل الرشد.
في وجهة نظرك، وإبراءً لذمتك يوم القيامة، وبموضوعية، أيٌّ من الآراء السابقة تتبناه كرأيٍ يعكس واقع تصرُّفك وانفعالك وقناعاتك وأخلاقك وقِيَمك؟
أزعجني كثيرًا ما أراه في منصات التواصل الاجتماعي من تعابير الغضب عند الاختلاف، بالقذف والشتائم والسباب، حتى وصل ببعضهم الأمر إلى ذكر الأعضاء الحساسة «ك**»، وذلك اغتصابٌ لفظيٌّ للكرامة الإنسانية، يُعاقب عليه قانونًا. أضحت ساحات الاختلاف في الرأي حول الرياضة والسياسة والثقافة والأفكار مرتعًا خصبًا للتراشق في المنصات الرقمية، بدلًا من أن تكون ساحةً خصبةً لرؤية المشهد من أكثر من زاوية، وإثراء المعرفة، واستدراك المثالب.
عند قراءة تغريداتٍ كهذه، وما تحمله من كمية ابتذالات، يتساءل الإنسان أحيانًا: هل تعيش بعض المجتمعات أزمةً أخلاقية، أم أن المنصات أضحت متنفسًا عن حجم الاحتقان فيها؟ أم أن المنصات الرقمية مرتعٌ خصبٌ لنمو وتفشِّي الفطريات العفنة؟!!
فضاء الإعلام العام في معظم دول العالم، كان إلى الأمس القريب، نظيفًا من الألفاظ الوقحة. إلا أن المحتوى الهابط في الدراما والمسلسلات العالمية المترجمة تحوَّل شيئًا فشيئًا إلى مصانع لتغذية مفردات الشتائم بامتياز. ومع مرور الوقت، وفي بعض المجتمعات، تم تطبيع مفردات الشتائم الجنسية وغير الجنسية، بل وترويجها كرمزٍ للواقعية أو الجرأة أو التهكم أو الازدراء أو التخوين أو المفاكهة والطرافة. ففي بعض المجتمعات، لم يعد مستهجنًا سماع مَن يقول: ”F**k you“، أو ”يا ابن الك***“، أو ”يا ع**“، على لسان بطل مسلسل، أو أحد اللاعبين، أو بائعٍ متجول! بل يُضحك له. كأننا أمام مشهدٍ جديدٍ، يتشكل فيه الوعي من مادةٍ وقِيَمٍ مبتذلة، يُغتال فيها العرض لفظيًا في أي وقت، لأي سبب، أو حتى بدون سبب.
شخصيًّا، عند قراءة خبرٍ أو تغريدةٍ أو تعليقٍ، أو معاينة مشهدٍ لأي حدثٍ أو حادثٍ، فإن أول توظيفٍ له هو السعي لفهم تفاصيل الأمور بموضوعية، عبر قراءة السردية من أكثر من مصدرٍ أو مغرِّد. وثانيًا: استنطاق الدروس المستفادة «Lesson learned» من الحدث لتجنُّب الوقوع في الهوة أو لتبني قصص النجاح. وثالثًا: إن وجدتُ حالةً من عدم الالتزام بآداب الحوار، أو انحياز المغرِّد لفكرة الشتم، فإني ألتزمُ الصمت بعد التنبيه له بشكلٍ خاصٍّ ومنفرد إن أمكن؛ وإن لم ينفع، أُعرضُ عن كامل المساجلة في تلكم الحوارات. التشديد على المحافظة على نظافة القلب واللسان والعين والأذن هو مصداقٌ للآية الكريمة:
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24]، والآية: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].