الذاهبون إلى الفقد
الذاهبون إلى الفقد بملابسهم الأنيقة، وشعورهم المسدلة، تستعصي اللغة على تتبع آثارهم. لذلك كنت أجر خلفي سؤالا ثقيلا ثقل صخرة لا تتحرك، لم أجد في قاموس كلماتي أيَّا من الألفاظ والمعاني يمكنها أن تصوغه بالطريقة التي تثور في داخلي كالبركان. لكنّ ثقله على كتفيَّ يجبرني على صياغته:
كيف باستطاعتنا أن نسوق الكلام بين أيدينا بسلاسة ومرونة حين يتعلق الأمر بالذين نحبهم وقد فقدناهم؟!
فإذا كانت المسافة بين ممن أحببناهم وبين فجيعة فقدهم مثلما هي المسافة بين النخلة وظلها، بين الأبواب وعتباتها، بين أصبع وآخر، بين الوجوه وانعكاساتها أمام المرايا، بين العين ونظرتها.
فإننا لا نشعر بفراغ أماكنهم في قلوبنا، ولا بتلاشي صورهم في أعيننا؛ حتى أن الدموع التي تنزل من مآقينا، لا تصدق ما يقال لها أنها دموع الحزن، أو أنها دموع الراحلين، وقد أرادوا استرجاعها على عجل. وكأن العين تخادع نفسها بتلك الدموع.
بعد ذلك، أسألكم بالله:
ألستم تدركون معي حقيقة الامتلاء بهم، في تلك الأماكن التي تشاركنا بها معهم، وتشعرون بها في نفوسكم، وترونها مرأى العين في نظراتكم؟!
أليس هم الحاضرون كالماء بيننا ونحن غيابهم حينما تضيع البوصلة، ولا نعرف أين تتجه غيومهم وسحائبهم؟
أليست الحياة التي عاشوها بين الناس هي كتاب ثمين لم نزل نقرأ صفحاته الأولى، وكأن موتهم يتعثر بين حروفها وأسطرها كلما حاول أن يصل إلى آخر الصفحات؟
لكنْ - يا للحسرة - مهما حاولنا، لا يمكن أن نضع الوقت في قفص، ثم نقفل عليه؛ حتى لا يهرب. سيتوجب عليه أن يمضي بنا إلى آخر العمر، وكلما تقدمنا خطوة إلى الأمام، في هذه الحياة، سيكون حنيننا واشتياقنا إلى آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا أكثر قوة، وأكثر صلابة وأكثر أسفا أيضا.
ولكن على ماذا نتأسف؟!
نتأسف على أننا لم نكن نطيل المكوث قربهم: قرب عاداتهم في الأكل، ما يحبونه منه، وما لا يتذوقونه.
قرب كلامهم حتى نستطيع أن نحفظ الطريقة التي يتحدثون بها، والكلمات التي يرددونها عن ظهر غيب.
قرب وجوههم حتى تمتلئ عيوننا بالنظرات التي تعودنا أن ينظروا بها إلينا. قرب قلوبهم حتى نقول للآخرين: هذا ما يحبونه، وهذا ما يكرهونه؛ وحتى نعرف أيضا آلامهم وآمالهم. عدا ذلك لن يكون بوسعنا أن نقول لهم: ارتاحوا في قبوركم، نحن بخير؛ لأننا لا زلنا نتنفس هواءكم الذي تركتموه لنا من ذكرياتكم.
نتأسف على ما أهملناه من تجاربهم وقصصهم في الحياة، ولم نستطع توثيقها في عقولنا قبل كراساتنا.
نتأسف على لحظات لم نضع فيها رؤوسنا في أحضانهم كي نتدثر بحنان سيذهب برائحته دون رجعة.
نتأسف على كلمات سقطت فجأة ولم نعد نستعملها في لهجاتنا اليومية المتعددة: «شلونك يبّه»، «شلونج يمّه».
يا له من أسف يهدّ جبال القلب، ويحيلها رمادا.
يا لها من فجيعة تكسر شيئا في داخلنا اسمه «الطمأنينة» حين نلتفت للوراء وننادي على الذاهبين بأعلى أصواتنا أن يعودوا. لكنهم لا يعودوا.
فقط، وحدهم اللائذون بصمتهم أمام الفقد هم القادرون على ابتكار حياة جديدة لهم بين الناس، وحدهم ينعزلون في بيوته كأنهم نساك.
بيد أنهم ليسوا عاجزين عن الكلام إطلاقا، وليسوا في غيبوبة من فرط آلام الفقد.
لكنهم مشغولون باكتشاف غابة الذكريات التي خلفها الفقد في دواخلهم، ولفرط انشغالهم لم يعد باستطاعتهم أن يتراجعوا.
أو باستطاعتهم أن يروا قبور موتاهم على مرمى حجر. مشغولون باكتشاف حياة الذي أحبوه، وعاشوا الفرح معه والحزن أيضا. كأنهم يكتشفون كنزا كان بينهم، ولم ينتبهوا له. مشغولون باسترجاع الأماكن التي ملأها بصخبه وشيدها بأنفاسه ورسم على جدرانها ضحكاته وكتب على ترابها خطواته وأهدى أبوابها لمساته، وفتح نوافذها لروائحه.