الخطاب الحسيني: علم درايةٍ أم رواية؟
موسم عاشوراء من أهمّ المواسم الدينية لدى أتباع أهل البيت ، لما يحمله من ارتباطٍ وجدانيٍ عميقٍ بسيد الشهداء الإمام الحسين
، الذي حظيت شهادته الأليمة باهتمامٍ استثنائي في وجدان الأمة. فقد ابتدأ هذا الاهتمام بالرسول الأعظم ﷺ، وامتدّ عبر الأئمة الطاهرين من أهل البيت
، ثم سار على نهجهم شيعتهم ومحبّوهم، محافظين على وهج الذكرى متّقدًا في كلّ عام.
ويأتي الخطاب الحسيني في طليعة البرامج التي تُقام ضمن الشعائر الحسينية، بوصفه منبرًا حيًّا يتجاوز حدود الزمان والمكان، وينقل القيم والمواقف، ويُلهب المشاعر، ويوقظ العقول.
وبالنظر إلى ما للخطاب الحسيني من أثرٍ بالغٍ في نفوس المستمعين، رأيت أن أسلّط الضوء على زاويةٍ محوريةٍ قد تكون المعيار الأساس في تقييم كلّ خطاب يُطرح في هذا الموسم العظيم؛ إنها زاوية ”الدراية“ ومدى حضورها في الخطاب الحسيني، مقابل الاكتفاء بنقل الروايات والأبحاث دون تأملٍ أو تحليل؛ فهل الخطاب الحسيني اليوم يُبنى على علم درايةٍ أم يكتفي الخطيب بعلم الرواية؟
وهنا لا أنكر أبدًا الجهد الكبير الذي يبذله الخطباء بحثًا وتحضيرًا وإعدادًا لخطاباتهم خلال هذا الموسم، وهم مشكورون ومأجورون على ذلك، سائلاً الله تعالى أن يضاعف لهم الأجر والثواب.
ولكي يزداد الأثر الذي يتركه هذا الخطاب في نفوس الحاضرين، أضع بين يدي الخطباء الأعزّاء هذه الملاحظات بروح المحبة والإخلاص، راجيًا أن تُستقبل بصدرٍ رحبٍ واهتمامٍ مشكور.
عندما يطرح الخطيب الموضوع نقلاً حرفيًّا من مصدره، سواء أكان ذلك تفسيراً لآيةٍ قرآنية، أو بياناً لحديثٍ شريفٍ أو روايةٍ معتبرة أو مسألةٍ فقهيّة، أو تحليلاً لبحثٍ اجتماعيٍّ، فإنّ ما يُقدّمه يُندرج ضمن الرواية، لا الدراية. وفي هذا السياق، يكون دور الخطيب دور الناقل فقط، دون إعمال فكرٍ أو تحليل.
وفي مثل هذا الطرح، قد لا يسع الخطيب أن يُجيب عن أدنى إشكالٍ يُوجّه إليه؛ لأنه لم يعالج الفكرة من داخله، بل اكتفى بنقلها.
وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أن شريحةً واسعةً من المستمعين اليوم قد بلغوا مراتب أكاديمية عالية، وصار لهم اطّلاعٌ واسع ووعي معرفي متقدّم، فلا يصح أن يُقدّم الخطاب لهم اليوم بذات الأسلوب الذي كان يُقدَّم به قبل عقود.
وهنا يبرز سؤالٌ جوهري: ما هي الدراية التي نتطلع إليها؟
الدراية هي التعامل الواعي مع النص، من خلال الوقوف على مضامينه، والتأمل في معانيه، وتحليل سياقاته، ومقاربة مفاهيمه بوعيٍ نقدي وفهمٍ شمولي، ثم ربطها بالواقع المعاصر، وتفعيلها ضمن خطابٍ حيّ يُلامس هموم الناس واحتياجاتهم الفكرية والروحية. ويستحضرني هنا ما ورد عن الإمام الصادق أنه قال: «حَدِيثٌ تَدْرِيه خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ حَدِيثٍ تَرْوِيه».
نعم، لغة التعميم ليست منصفة، فهناك خطباء متألّقون في مجتمعنا، يُقدّمون خطابًا حسينيًّا مشرقًا واعيًا، يرقى لمستوى التحديات والأسئلة. إلّا أننا نتطلع إلى أن يُصبح الطابع العام للخطاب الحسيني في مجتمعنا على هذا النهج الواعي، العميق، المرتبط بالواقع والمعالج لهموم الناس واحتياجاتهم.
القضية الحسينية متشعّبة الأبعاد، ولا تقتصر على البُعد العاطفي الذي يُمثّل جوهر موسم عاشوراء، بل تمتدّ إلى أبعادٍ فقهيةٍ، واجتماعيةٍ، وتاريخيةٍ، وإنسانيةٍ، تجعل منها قضيةً حَيّة قابلة للغوص فيها من زوايا متعدّدة.
وهنا يجد الخطيب نفسه أمام موجٍ متلاطم من القضايا التي يمكنه الإبحار فيها، والغوص في أعماقها، إلا أنّ ذلك لا يتحقّق إلا لمن امتلك مفاتيح الدراية، وكان على وعيٍ بما يتحدّث عنه، وهذا هو جوهر النقاش في هذا المقال.
وضمن هذا التنوّع، يقف الخطيب أمام ثلاثة مسارات رئيسية، وعليه أن يتأمّل نفسه جيّدًا ليختار المسار الذي يناسبه.
ومن المهم أن نؤكّد: أن الأثر لا يرتبط بمسارٍ دون غيره، بل بكفاءة من يسلكه. فكلّ مسارٍ من هذه المسارات يحمل أثرًا كبيرًا في نفوس المستمعين، إلا أن التميّز لا يكون باختيار المسار ”الأفضل“، بل بالوقوف في المسار ”الأنسب“.
ولهذا، ينبغي على الخطيب الحسيني أن يضع نفسه في الموضع الذي يليق به ويتناسب مع مقامه العلمي والروحي، ليكون المنبر الذي يرتقيه مرآةً مشرقةً تعكس عظمة القضية التي من أجلها كان هذا الموسم العظيم.
في عمق العَبْرَة تنبض روح عاشوراء، حيث لا تكون الدمعة نهاية الشعور، بل بدايته، ولا تكون العاطفة لحظة انفعال، بل بوابةً ليقظة روحيةٍ وتأملٍ إنساني. وهنا يبرز الخطاب الوجداني بوصفه مسارًا يُحرّك مشاعر المستمعين، ويُوقظ فيهم حرارة المأساة، ويُهيّج عَبْرتهم لتنهمل الدموع على محياهم، وتلين قلوبهم لذكرى الطف الأليمة.
وهذا المسار لا يقتصر على إثارة المشاعر فحسب، بل يُمكن أن يتّسع ليشمل الموعظة، تلك التي تُنعش القلب وتوقظه من غفلته، كما قال أمير المؤمنين : «أَحْيي قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَة».
وهذا اللون من الخطاب لا يتحقق إلا لمن امتلك أدواته الخاصة، وعلى رأسها:
• الصوت الشجي، الذي يحمل الحزن في نبراته.
• الأسلوب الرقيق، الذي يخاطب الأرواح بلطف.
• الاندماج الوجداني العميق مع القضية الحسينية، ليخرج الخطاب حيًّا نابضًا بالشعور لا مجرّد أداء.
القضية الحسينية ليست واقعةً تُحكى، بل تاريخٌ يُقرأ. ومن هذا المنطلق، يمكن تناولها باعتبارها قضيةً تاريخيةً وقعت في عام 61 هـ، وكان طرفاها: الإمام الحسين من جهة، ويزيد بن معاوية من جهة أخرى.
ومن هذا المنظور، تنفتح أبوابٌ واسعة لمناقشة أحداث كربلاء وسياقاتها الزمنية والسياسية والدينية.
فالملحمة الحسينية لم تكن مجرد مواجهة، بل كانت امتدادًا لصراعٍ حضاري حول هوية الأمة واتجاهها بعد رسول الله ﷺ. ومن اللافت أن العديد من الشخصيات التي شاركت في كربلاء كانوا من الصحابة أو التابعين، ما يعني أنهم عاشوا في المراحل التأسيسية للدولة الإسلامية، وكانوا شهودًا على تحوّلاتٍ كبرى، مما يُضفي على هذا البُعد التاريخي زخمًا معرفيًّا وفكريًّا بالغ الأهمية.
ولا شكّ أن لهذا اللون من الخطاب روّاده المتميّزين، ومجتمعنا يزخر بخطباء يُجيدون الإمساك بزمام الخطاب التاريخي، ويُحسنون استحضار الوقائع وتحليل مجرياتها ضمن سياقها الزمني دون إخلالٍ بالهدف الرسالي للمنبر.
لم تكن عاشوراء مجرّد نهضةٍ ضد الظلم والفساد، بل كانت مدرسةً متكاملةً تحمل في طيّاتها مختلف أبعاد الدعوة الإسلامية. ولذا، حين قرّر الإمام الحسين التوجّه إلى العراق، صدح بمقولته الشهيرة: «إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي».
ومن هذا المنطلق، ينفتح أمام الخطيب أوسع مسارات الخطاب الحسيني، مسارٌ متشعّب يختزن في أعماقه كلَّ ما يحتاجه المجتمع من وعيٍ ومعالجةٍ لقضاياه المعاصرة في مختلف ميادين الحياة.
إلّا أن هذا المسار - رغم اتساعه - يتطلّب من الخطيب وقفة تأمّلٍ جادّة قبل الخوض فيه، فهو يختلف تمامًا عن المسارين السابقين؛ إذ يتطلب مسؤوليةً معرفيةً ومنهجيةً أعلى، ويتجاوز مجرّد حسن الإلقاء أو إثارة العاطفة.
فالقضية هنا ليست مجرد موضوع يُطرح على المنبر، وكفى؛ إنها: أمانة الكلمة.
فقد يتناول الخطيب موضوعًا اجتماعيًا بقصد المعالجة، لكنه يُسهم - دون قصد - في تفاقم المشكلة، إما لغياب التمكّن، أو لعدم الإحاطة بجوانب الموضوع كافة.
وقد ينقل رأيًا قرأه في أحد الكتب، سواء كان تفسيرًا لآيةٍ، أو رأيًا فقهيًا، أو تحليلًا اجتماعيًا، دون أن يُمعن النظر في خلفياته، أو يتأمّل ملاءمته للواقع. وعندئذ، قد يعجز عن الإجابة على أبسط إشكالٍ يُطرح عليه.
أضف إلى ذلك أن آراء العلماء والمفكّرين السابقين - مع أهميتها - ليست بالضرورة صالحةً دائمًا للطرح المعاصر، فبعض القضايا تحتاج إلى إعادة قراءة وتأمّل جديد يتناسب مع طبيعة الجيل، وتطوّر الوعي، وتغيّر السياق.
وما يُضاعف الخطورة أن يتناول الخطيب موضوعًا تخصصيًّا خارج نطاق اهتمامه واطلاعه، لمجرد أن الموسم يتطلّب تنوّع المواضيع. فيُقحم نفسه في ميدانٍ معرفي لا يُجيده، ولا تحظى سيرته العلمية والعملية بأي صلةٍ به، وهنا تكمن الكارثة الحقيقية حين يصبح الخطاب الحسيني ميدانًا للتجريب، بدل أن يكون منارة وعيٍ ومسؤولية.
وختاماً: إن الخطاب الحسيني أمانةً لا تُختزل في دمعة، ولا تكتمل بروايةٍ بلا دراية. فالقضية الحسينية غنيةٌ بالأبعاد، متعدّدة المسارات، وكلُّ مسارٍ منها يُلامس جانبًا من وجدان الأمة وواقعها. ومسؤولية الخطيب أن يُحسن اختيار موقعه، وأن يرتقي بخطابه إلى مستوى الوعي، لا مجرد الأداء. فالمنبر الحسيني ليس منبرًا للبكاء فقط، بل منارةٌ للفكر، وموقعٌ لصناعة الوعي.