آخر تحديث: 19 / 6 / 2025م - 6:45 م

ماذا كتب المستشرقون عن تراث الأحساء؟

طالب عبد الحميد البقشي *

يمثّل أدب الرحلات والتجوال لاكتشاف تراث الأمم وحضارات الشعوب في مختلف الأوطان فنًّا من فنون الأدب العالمي، ومصدرًا مهمًّا للدراسات التاريخية المقارنة، وإحدى الأدوات الأثرية المعينة على كتابة التاريخ. وتُعد كتابات الرحالة والمستشرقين نافذة لرؤية الآخر الأجنبي للحياة العامة والاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي، بما تحمله من مشاهدات يومية لعادات الشعوب وتقاليدهم، وتقديم صورة مغايرة عمّا يُسجَّل في التوثيق المحلي من حيث منهج الكتابة التاريخية.

وقد أسهم الرحالة الغربيون في الكتابة عن منطقة الأحساء وحياة أهلها من منظور مختلف عمّا وثّقه المؤرخون والباحثون من أبناء المنطقة، فرسموا تنوّعًا في المنهجية التاريخية، وطرحوا وجهات نظر متعددة أظهرت جوانب قد يغفل عنها أبناء الأحساء بسبب الألفة والاعتياد، مما أحدث فارقًا نوعيًّا، وأضاف إلى تراكم التجربة في دراسة أدب الرحلات على نحو عام. كما أن تسليط الضوء على منهجية هؤلاء الرحالة في تدوين انطباعاتهم حول الأحساء يُكمل مشروع توثيق تاريخها من زوايا متعددة ومتنوعة.

وقد شهدت الأحساء زيارات لعدد من الرحالة الغربيين في القرن الحادي عشر الهجري «السابع عشر الميلادي»، ومن أبرزهم الرحالة الدنماركي كارستن نيبور، الذي زار الأحساء عام 1763 م ضمن بعثة علمية استكشافية. وقدّم وصفًا دقيقًا عن الأحساء، وأقام أثناء رحلته في الهفوف، متحدثًا عنها بوصفها مدينة كبيرة محصنة بأسوار وأبراج، وذكر وفرة النخيل، وأشار إلى استخدام قنوات الري والمياه الجوفية، وأولى اهتمامًا بعادات السكان، واصفًا الأوضاع الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية في كتابه «رحلة نيبور إلى الجزيرة العربية».

أما الرحالة البريطاني ويليام بلجريف، فقد زار الأحساء في عامي 1279-1280 هـ «1862-1863 م» بهدف الاستكشاف والملاحظة، مع دراسة السكان من حيث العِرق والأوضاع الفكرية والسياسية والاجتماعية. وقد وصف حيّ الكوت بأنه قلعة ضخمة تحيط بها أسوار وأبراج عالية وسميكة، وخندق عميق. كما أشار إلى أحياء أخرى كحي النعاثل وحيّ الرفعة، وأبدى إعجابه بنظافة شوارعه واتّساعها، معتبرًا إياها تفوق ما رآه في دمشق أو بريدة، وقال: «شوارع دمشق أو بريدة لا تصل إلى ربع هذا الاتّساع أو النظافة»، واعتبر الحيّ صحيًّا لما فيه من أناقة وجمال مساكنه.

وزار أيضًا مدينة المبرّز، متجوّلًا في أسواقها وشوارعها ومرافقها، كما تحدّث عن قرية الكلابية، ووصف الحالة الاقتصادية والتجارية في أسواق الأحساء، مشيرًا إلى كثرة عيون المياه التي بلغت قرابة 300 عين. ولفت إلى النشاط الزراعي وتنوع التمور، مُظهرًا إعجابه برُطب الخلاص، حتى قال: «إنه أفضل رُطب في الدنيا كلها».

وفي حين لم يزر لوريمر الأحساء، إلا أنه تناولها تفصيلًا في كتابه الشهير «دليل الخليج» بجزأيه: التاريخي والجغرافي - الإحصائي «1908-1915 م»، مستندًا إلى تقارير رسمية وشهادات لرحالة وتجار ومراسلات. وقد وثّق أوضاع الأحساء قديمًا وحديثًا من حيث الجغرافيا والقبائل والسكان والأنشطة الاقتصادية وحتى موارد المياه العذبة، وأشار إلى التاريخ القديم، خاصةً في حقب العثمانيين وبني خالد. وذكر أن عدد سكان واحة الأحساء، بما في ذلك الهفوف، بلغ عام 1905 نحو 25,000 نسمة، بينما بلغ عدد سكان المبرز 8,500.

ومن الرحالة الذين زاروا الأحساء أيضًا عالم الطبيعة البريطاني تشيزمان، الذي زار الهفوف عام 1923 م بقصد دراسة المعالم الجغرافية والحياة النباتية والحيوانية. وقدّم وصفًا للمنطقة من حيث الجغرافيا والزراعة، واهتم بكثافة النخيل والبنية الاجتماعية والعادات، وتناول الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للأحساء آنذاك. وفي كتابه «في بلاد العرب المجهولة» الذي نُشر عام 1926 م كمذكرات شخصية، وصف الهفوف بأنها مشهد من البياض، قاصدًا بذلك لون الحجر الجيري الذي بُنيت منه المنازل، وخلفها أشجار النخيل الداكنة. وتحدّث عن الحرفيين القدامى قائلاً: ”كنت عندما أخرج من البيت الذي أسكن فيه وأنعطف شرقًا، أمرّ بحوانيت الصفّارين الصغيرة“. وخلال رحلته جمع أكثر من 300 عينة من النباتات والحيوانات، لا تزال محفوظة في المتحف البريطاني، وكان أول من رسم خرائط دقيقة للساحل من خليج سلوى إلى العقير وحدّد موقع الهفوف.

أما فريدريكو فيدال، فقد ألّف كتاب «واحة الأحساء» عام 1952 خلال عمله في شركة أرامكو، وتناول فيه التاريخ الاجتماعي والزراعي للأحساء، وقدّم معلومات وافية عن القرى وسكانها، وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى دراسات عن العيون والينابيع والآبار.

كما كتبت الليدي آن بلنت، الرحالة الإنجليزية، عن الأحساء في كتابها «مذكرات الرحلة إلى الشرق»، مشيدةً بغنى الأحساء بالزراعة، خاصة النخيل، وذكرت دورها في الاقتصاد، وأشادت بجمال طبيعتها، لا سيما الواحات والمسطحات الخضراء.

وزار الرحالة الدنماركي باركلي رونكيير الأحساء عام 1912 م، وسجّل مشاهداته حول المزروعات، والنخيل، والبساتين في الهفوف، في كتابه «عبر الجزيرة على ظهر جمل».

وتعتمد منهجية الرحالة والمستشرقين في الكتابة التاريخية غالبًا على الوصف الشخصي والانطباعات الذاتية، وتكون غايتها في الأغلب استكشافية أو تجارية، ونادرًا ما تستند إلى مصادر محلية أو روايات شفوية، بل تفتقر في أحيان كثيرة إلى فهم اللغة العربية، مما يُضعف من دقة السياق. وقد تتسم هذه الكتابات أحيانًا بتحيّز ثقافي أو سوء فهم للعادات والتقاليد، وربما يشوبها تشويه للحقائق بدافع استشراقي.

ومع ذلك، فإن من أبرز مزايا هذه الكتابات أنها توثق مشاهدات لفترات لم تكن فيها روايات محلية كافية، وتقدّم منظورًا خارجيًّا قد يكون محايدًا في بعض الجوانب.

أما المؤرخون والباحثون من أهل الأحساء، فقد اعتمدوا في الغالب على منهجية علمية وأكاديمية تستند إلى الوثائق المحلية، والروايات الشفوية، والمخطوطات، بهدف الحفاظ على الهوية الثقافية والتاريخية. وقد تنوّعت مصادرهم بين الأرشيفات المحلية، ووثائق الأوقاف، وسجلات المحاكم. ومن أبرز هؤلاء: عبدالرحمن الملا، وعبدالخالق الجنبي، وحمد الجاسر، وجواد الرمضان، والشيخ محمد الحرز، وجميعهم قدّموا توثيقًا دقيقًا لتاريخ الأحساء، مستندين إلى معرفة عميقة بالسياق المحلي، واهتمام بتفاصيل غالبًا ما يُغفل عنها الرحالة الأجانب.

ورغم السبق الزمني للرحالة والمستشرقين في توثيق تاريخ الأحساء، خاصة في المراحل التي سبقت النهضة التعليمية، إلا أن التوثيق العلمي الحديث يتطلّب التعامل النقدي مع رواياتهم، وتحليلها في ضوء السياق المحلي. والجمع بين المصدرين هو الأنفع، بحيث يُنظر إلى كتابات الرحالة كشهادات زمنية تُحلَّل وتُفسَّر من خلال عدسة الباحث المحلي الأكثر درايةً بالبيئة والتاريخ والناس.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
د. عبدالله
18 / 6 / 2025م - 8:51 ص
مقال ممتاز، لكن أود أن أضيف أن الاعتماد على المصادر الأجنبية يجب أن يكون بحذر، لأنها غالبًا تتأثر برؤى ثقافية وسياسية معينة، لذا من الضروري أن نعيد تقييمها ضمن سياقها التاريخي ونقارنها بالمصادر المحلية لتحقيق فهم أكثر توازنًا.
2
فاطمة
[ القديح ]: 18 / 6 / 2025م - 5:02 م
يا ليت الكاتب يواصل الكتابة ويوسع الموضوع أكثر عن كيف نستفيد من هالكتابات في فهم تاريخنا بشكل أعمق، خاصة أن بعض الرحالة كانوا يصفون الأحساء بشكل حي ومباشر، وهذا شيء نفتقده في توثيقنا المحلي.