اسقونيها ولو كان فيها حتفي
في المسيرة الحسينية، تتجلى العديد من المشاهد والكلمات التي تستحق أن يُسلَّط عليها الضوء، وأن تُبرز بشكل مستقل لتنال نصيبها من التأمل والتفاعل. وقد بذل في هذا المجال جهدًا يستحق التقدير، سماحة العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي، حيث كرّس أكثر من أربعين عامًا من عمره في تأليف موسوعة المعارف الحسينية، التي ضمّت 1000 مجلد - وهو إنجاز نادر يُعد من الأضخم في عالم الموسوعات التي ألّفها شخص واحد حول موضوع محدد، ويستحق الشكر والدعاء له.
ومن الكلمات التي تحمل دلالة عميقة في هذا السياق، قول هانئ بن عروة رضوان الله عليه:
”اسقونيها ولو كان فيها حتفي“، وهي عبارة لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت شفرة سرية بينه وبين مسلم بن عقيل ، تشير إلى فرصة للقضاء على عبيد الله بن زياد عندما زاره أثناء مرضه. لكن مسلماً رفض تنفيذ ذلك، في موقف يُطرح حوله الكثير من التأمل، إذ يكشف عن مبدأ أخلاقي يتجاوز الحسابات الآنية.
السؤال هنا: هل نحن اليوم نطبق هذا المبدأ ”اسقونيها ولو كان فيها حتفي“ عن وعي، أم أننا نقع فيه دون إدراك؟
كثيرًا ما يكون الإنسان في مرحلة الحماسة المطلقة، يتبنى قضية بكل قوته ويكون أقرب إلى الصقور، يحارب من أجلها دون تردد، ثم تأتي لحظة المراجعة، فيعيد النظر فيما ظنه حقيقة لا تقبل النقاش، فيكون أقرب إلى الحمائم.
تعبيرًا عن هذا التحول، نجد في أبيات المرحوم الدكتور غازي القصيبي تصويرًا دقيقًا لحالة مراجعة الذات بعد سنوات من النضال:
وعدتُ من المعارك لستُ أدري علامَ أضعتُ عُمري في النزالِ؟
وماذا عنكِ؟ هل جربتِ بعدي من الأهوالِ قاصمة الجبالِ؟
وهل عانيتِ ما عانيتُ جُرحًا تجهّمه الطبيبُ! بلا اندمال؟
على عينيكِ ألمح برق دمعٍ أحالكِ يا حبيبةُ مثل حالي؟
الكلمات هنا ليست مجرد وصف لحالة وجدانية، بل تعكس تأملًا في جدوى المعارك التي يخوضها الإنسان ومدى تأثيرها في روحه. هل كان اندفاعه في لحظة ما مبنيًا على قناعة راسخة، أم أن تغير الظروف جعله يرى الأمور من زاوية مختلفة؟
لذلك، ليس المطلوب أن يعيش الإنسان بلا حماسة، لكن الحماسة إن لم تكن متبوعة بتقييم عقلاني قد تجرّ إلى عواقب وخيمة. وهنا نجد توصيات أهل البيت التي تؤكد أهمية التوازن:
• الإمام علي «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما.»
• وعنه «إذا أحببت فلا تكثر.»
• وعنه في القرارات المصيرية» إذا لوّحت الفكر في أفعالك، حسنت عواقبك في كل أمر.»
ختاما.. أقول كل فكرة عظيمة تمر بثلاث مراحل: حماسة الولادة، اختبار الميدان، ثم مراجعة الصواب والخطأ. ثم يجد الإنسان نفسه أمام التساؤل: هل كنت محقًا؟ هل كنت متهورًا؟ هل كنت غائبًا حين وجب الحضور؟
إن الوقوف أمام فكرة ”اسقونيها ولو كان فيها حتفي“ ليس مجرد تأمل في ماضٍ بعيد، بل دعوة مفتوحة لإعادة النظر في الحماسات التي تغمرنا، والقرارات التي نندفع إليها، والمواقف التي نظن أنها لا تقبل التعديل. فليس كل تراجع ضعفًا، وليس كل إصرار صوابًا، والحكمة تكمن في اللحظة التي يدرك فيها الإنسان متى يمضي؟، متى يتراجع؟، ومتى يعيد النظر؟