آخر تحديث: 14 / 5 / 2025م - 9:24 ص

‎حين تهدأ الروح… تنطق السعادة من الداخل

سامي آل مرزوق *

السعادة ليست حلمًا عابرًا ولا سرابًا بعيد المنال، بل هي ثمرة تنمو في النفس حين تُروى باليقين، وتُغذَّى بالقناعة، وتُضيء بالرضا. ولأنها مقصدٌ أصيل في فطرة الإنسان، فقد اهتم بها الدين، وأرشدت إليها النصوص السماوية، واحتفى بها علم النفس الحديث، مؤكدًا أنها ليست متعلقة بالوفرة المادية أو المظاهر، بقدر ما هي انعكاسٌ لتوازنٍ داخلي وشعورٍ عميق بالسكينة والسلام.

وحين ننظر إلى السعادة من هذا المنظور، نجد أنها لا تأتي من مصدر واحد، بل من منظومة من العوامل التي تتناغم لتشكّل حياة طيبة، أشار إليها القرآن الكريم بوضوح، قال جل وعلا: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97].

ويُعد الإيمان والارتباط الروحي بالله سبحانه وتعالى من أعظم مصادر السعادة تأثيرًا ورسوخًا، فالقلب الذي يطمئن بذكر الله ويثق بعدله ويسلّم أمره إليه، يعيش في ظل السكينة مهما اشتدت العواصف، لقوله جل وعلا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].

وفي هذا المعنى عبّر الإمام علي عن هذه الحقيقة بقوله: «من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس» «نهج البلاغة».

وإذا كان الإيمان يُغذّي الروح بالطمأنينة، فإن العلاقات الإنسانية الصادقة تغمر القلب بالدفء، فهي داعم أساسي للسعادة. فالحياة لا تزدهر في العزلة، بل في الدفء الذي تمنحه الأسرة لأفرادها، والطمأنينة التي تبثها الصداقة، والرحمة التي تتجلى في التراحم بين الناس. وقد ورد في الحديث المروي عن النبي محمد ﷺ: «خير الناس أنفعهم للناس» «الكافي، ج 2، ص 306». كما رُوي عن الإمام جعفر الصادق قوله: «تواصلوا وتبارّوا، فإن الله يحب التواصُل» «الكافي، ج 2، ص 175».

فإذا كانت العلاقات الإنسانية الصادقة تمنحنا الدفء، فإن الرضا والامتنان يرويان القلب من الداخل ويفتحان عيني الإنسان على النعم التي بين يديه؛ فالذي يرضى لا يحزن، والذي يشكر لا يحقد. وقد وعد الله سبحانه وتعالى الشاكرين بالزيادة، قال جل وعلا: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].

وكما قال الإمام علي : «القناعة مالٌ لا ينفد، والرضا راحةُ النفس» «نهج البلاغة، حكمة 57».

وإلى جانب الإيمان والعلاقات والامتنان، يظهر عنصر لا يقل أهمية، وهو الشعور بالإنجاز وتحقيق الذات. فهو شعور يمنح صاحبه معنى، ويشعره بأنه ليس عابرًا في الحياة، بل له أثر وقيمة، سواء أكان الإنجاز علميًّا أو عمليًّا أو ذاتيًّا. ويولّد ذلك لدى الشخص احترامًا للذات وشعورًا بالتحرر من الفراغ، قال جل وعلا: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39].

وكذلك نجده في قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «قيمةُ كل امرئٍ ما يُحسنه» «شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين، ابن ميثم البحراني، ص 61».

وإن من أكثر ما يبعث السكينة ويغرس السعادة في النفس: البساطة، وتجنب التعقيد والمقارنات، فهي تقي الإنسان من مشاعر النقص والغيرة؛ لأنها تبعده عن تقييم ذاته بمعايير غيره، وتدعوه للنظر إلى ما بين يديه برضا وامتنان. فالنفس المتصالحة لا تنشغل بما يملكه الآخرون، بل تفرح بالقليل وتعيش في سلام داخلي يُثمر الطمأنينة والرضا. وقد قيل بحق: «من قنع استغنى».

ولعل أوسع أبواب السعادة وأسرعها تأثيرًا هو العطاء ومساعدة الآخرين، وهو باب عظيم لا يعود بالنفع على المحتاج فقط، بل ينعكس أثره مباشرةً على نفس المعطي، فيشعر بأنه فاعل في الخير وصانع للفرق، وهذا الشعور يغمر صاحبه بالفرح والسعادة. ففي الحديث المشهور عند الفريقين عن النبي محمد ﷺ: «أفضل الناس أنفعهم للناس» «رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في الجامع الصغير».

وعن الإمام جعفر الصادق قال: «ما من عملٍ أحب إلى الله عز وجل بعد الفرائض من إدخال السرور على المؤمن» «الكافي، ج 2».

ولا يمكن أن نغفل أثر الصحة الجسدية والنفسية، فهي وعاء السعادة وميدانها؛ فلا راحة مع وجع دائم، ولا انشراح مع اضطراب نفسي غير معالج. وكلنا نعلم أن النوم الجيد، والتغذية المتوازنة، والنشاط البدني المنتظم، عوامل مترابطة تساهم في تحسين الصحة النفسية والجسدية والشعور بالسعادة. ففي الحديث عن ابن عباس عن النبي محمد ﷺ أنه قال: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ» «رواه البخاري، حديث رقم 6412».

وفي النهاية، فإن من أجمل مصادر السعادة كذلك: ما يُعرف بالعيش في الحاضر والاستمتاع باللحظة، وهي كلمة نسمعها كثيرًا من المقرّبين: «عِش لحظتك» واستمتع بها، دون اجترارٍ للماضي أو قلقٍ من المستقبل؛ فالزمن الحقيقي هو الآن، واللحظة التي تمر لن تعود. وقد عبّر عنها الإمام علي في نهج البلاغة «حكمة 336» بقوله: «ما مضى فات، والمؤمّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها».

فالسعادة قرارٌ نابع من فهمٍ عميقٍ للحياة، واختيارٌ تجيده القلوب المتصلة بالله، المحبة للخير، الواعية لمعناها الحقيقي.

ويبقى سؤالٌ يستحق التأمل: هل تبحث عن السعادة فيما حولك، أم نسيت أنها كانت في داخلك طوال الوقت؟