أن تكون طيبًا دون أن تُهدر نفسك
الطيبة خُلق نبيل وصفة رفيعة لا يتحلى بها إلا من سُمي قلبه بالرحمة وامتزجت مشاعره بالإنسانية، وقد دفعني إلى البحث في هذا الموضوع ما يدفع الكتاب الذين يراقبون الحياة الاجتماعية ويحدوهم الأمل والتطلع نحو واقع أفضل، تسوده المحبة والألفة والرحمة والسعادة وغيرها من القيم التي تليق بالمجتمعات الطيبة.
فالطيب يُعرف بلين جانبه وعفوه عمن ظلمه، ومساعدته لمن احتاج إليه، غير أن هذه الصفة حين تمارس بإفراط وبلا توازن داخلي قد تتحول في كثير من الحالات من فضيلة إلى نقمة ومن نقمة إلى عبء نفسي واجتماعي، كثير من الطيبين يجدون أنفسهم في مواقف يشعرون فيها بالإهانة، أو الاستغلال، أو حتى الخيانة لا لأنهم سيئو الحظ بل لأنهم أسرفوا في الطيبة على حساب أنفسهم دون أن يضعوا حدوداً واضحة في علاقاتهم، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل الطيبة دائماً خير؟ أم أنها تحتاج إلى وعي وحدود تقي صاحبها من الانكسار؟
قال جل وعلا في محكم كتابه العزيز ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: آية 34]. فقد ميزت هذه الآية الكريمة بين الحلم والضعف، وأن الطيبة لا تعني الاستكانة، علمتنا اللطف وأظهرت لنا التوازن: ادفع بالتي هي أحسن لا بالتي تُضعفك.
وفي الحديث النبوي الشريف عن النبي محمد ﷺ قوله وهو حديث مشهور روي من الفريقين ”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير“، والمقصود هنا بالقوة: القوة النفسية والعقلية والقدرة على وضح الحدود لا فقط الجسدية وقد أشار لها السيد محمد حسين الطبطبائي في "تفسير الميزان.
وروي عن الإمام علي قوله ”من وضع نفسه في مواضع التهمة فلا يلومن من أساء الظن به“ بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 72 ص 91، وهذا تحذير ضمني من أن المبالغة في الطيبة وفي غير محلها قد تعود على صاحبها بضرر.
ومن الناحية العلمية، يفرّق علم النفس الحديث بين ما يُعرف بالطيبة المتوازنة ومتلازمة إرضاء الآخرين. فعندما يشعر الإنسان بأنه مضطر دائمًا لإرضاء من حوله، حتى على حساب راحته النفسية أو كرامته، ولا يستطيع قول كلمة ”لا“، ويُقدّم مشاعر الآخرين على مشاعره، فإنه غالبًا ما يعاني من القلق المزمن، والاحتراق العاطفي، وانخفاض احترام الذات، ويكون أكثر عرضة للاستغلال من قِبل الآخرين.
يرى عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ مؤسس علم النفس التحليلي عام 1961 م في نظريته ”الظل في علم النفس“ في كتابه المعنون ”أيون: بحوث في ظواهر الذات“، ”إن كل إنسان يحمل في داخله“ ظلًا" نفسيًا، أي الجانب المكبوت من شخصيته. وكلما زاد الإنسان في إظهار سمةٍ معينة «مثل الطيبة واللطف»، زادت إمكانية وجود نقيضها في اللاوعي «مثل الغضب أو التمرد»، وقد يظهر فجأة في مواقف معينة.
فغالباً ما يفرط الشخص الطيب في كتم مشاعره، وإرضاء الآخرين وتجنب المواجهة، ما يؤدي إلى تراكم الضغوط، وهذا الكبت قد ينفجر لاحقاً على شكل سلوك غاضب حاد أو متطرف لأن النفس بطبيعتها تطلب التوازن، ففي العلاقات الإنسانية عندما يعرف الآخرون أنك تقدر نفسك ولا تسمح بأن تستغل فإن احترامهم لك يزيد، أما عندما يرون أنك دائماً متاح دائماً متنازل فإنهم دون وعي قد يفقدون تقديرهم لك ويعاملونك بما لا تستحق.
الطيبة صفة نبيلة تعبّر عن نقاء القلب وسموّ النفس، لكنها حين تفتقر إلى الوعي والحدود، قد تنقلب عبئًا على صاحبها، فالإنسان الذي لا يعرف متى يرفض، ولا يُحسن رسم حدوده، سرعان ما يُستنزف عاطفيًا، ويُفقد احترامه لذاته في محاولة مستمرة لإرضاء الآخرين.
الطيبة ليست خضوعًا، ولا تعني أن تكون دومًا المُنقذ أو المتنازل، بل هي القدرة على العطاء من موقع قوة واتزان، علينا أن نُربّي أنفسنا وأبناءنا على طيبة راشدة، يُصاحبها وعي بالذات، وكرامة لا تُساوَم، وحزم يحفظ للروح توازنها، فقد قال الإمام علي ”كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيُركب، ولا ضرع فيُحلب“ وهي دعوة صريحة إلى الحذر من أن يتحول الطيب إلى وسيلة للاستغلال.
فعلم النفس الحديث يؤكد أن الطيبة الحقيقية لا تكتمل إلا بمهارات مثل قول ”لا“، وفهم الأولويات، والتمييز بين من يستحق العطاء ومن لا يستحق، فكن كريمًا دون أن تُنهك، واسعًا بالخير دون أن تُضيّع نفسك، لا تطفئ نور قلبك، لكن لا تسمح له أن يُحرقك.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التوازن بدقة، قال تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: آية 159]، فالدعوة إلى الرحمة لا تعني الانسلاخ عن الحزم، بل تعني اتزانًا في التعامل يحفظ للإنسان احترامه وكرامته.
فليكن عطاؤك نورًا لا قيدًا، ولتكن طيبتك جسرًا إلى السلام، لا سُلّمًا يُصعد عليه الآخرون على حسابك.
وهنا يبرز السؤال: كيف تظل طيبًا دون أن تُفرّط في حق نفسك؟ وما العلامات التي تنبّهك إلى أن الوقت قد حان لإعادة ضبط حدودك؟